مقاربة اقتصادية لتكاليف الحروب الاقتصادية على سورية

د. هيثم أحمد عيسى

مقاربة اقتصادية لتكاليف الحروب الاقتصادية على سورية

شعار كلية الاقتصاد

د. هيثم أحمد عيسى*

البحث منشور في مجلة الفكر السياسي التي تصدر عن اتحاد الكتاب العرب – دمشق

1- المقدمة

يتم توجيه العلاقات الدولية وتغيير مساراتها بوساطة ثنائي الدبلوماسية (السياسية والاقتصادية) بالإضافة إلى القوة العسكرية. تشمل الدبلوماسية الاقتصادية مجموعةً من الأدوات المتنوعة مثل المِنح والهبات والقروض المُيسّرة وغيرها ولعلّ أكثرها تطرفاً هي الجزاءات/العقوبات[1](sanctions) الاقتصادية الدولية التي تعني “… نشاطاً دولياً ثنائياً أو متعدد الأطراف، تستخدم فيه أطراف دولية (دول، تكتلات، منظمات) مقدراتها الاقتصادية في التأثير السياسي أو الاقتصادي، أو تستخدم قوتها السياسية لتحقيق منافع اقتصادية وذلك عبر آليات متكافئة أو غير متكافئة ينتج عنها معاهدة أو اتفاقية تساهم في تحقيق أهداف مختلفة”.[2]كما تُعرّف الجزاءات الاقتصادية بأنها سحب العلاقات التجارية والمالية المعتادة من أجل تحقيق أهداف تتعلق بالسياسات الخارجية والأمنية وقد تكون شاملةً أو مستهدفةً لصفقات أو قطاعات أو أفراد محددين، وتلجأ الحكومات والهيئات متعددة الجنسيات إلى فرض هذه الجزاءات محاولةً تعديل القرارات الاستراتيجية للدول أو الفاعلين غير الدول التي تهدد مصالحهم أو تنتهك معايير العمل الدولي.[3]

يشير الواقع العملي إلى تزايد استخدام الجزاءات الاقتصادية في السياسة الدولية من قِبل الأمم المتحدة وكذلك الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي. إلا أنّ استخدام الجزاءات خارج نطاق الأمم المتحدة كما في حالة الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي لا يتعلق بفعاليتها في تحقيق الأهداف المعلنة لها وإنما كونها أداة مرنة تحقق مصالح وأهداف سياسية داخل الدول التي تفرضها بتكاليف زهيدة مقارنةً بالحروب العسكرية.

تتناول هذه الدراسة تحليل الجزاءات الاقتصادية التي أعلنتها الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي ضد سورية مع التركيز على الأهداف المعلنة لهذه الجزاءات وتداعياتها السلبية الاقتصادية وغير الاقتصادية على سورية.

2- التحوّل من الحرب العسكرية نحو الحرب الاقتصادية:

على مستوى العالم، حصل تحوّلٌ تدريجي نحو اعتماد الجزاءات الاقتصادية ضمن قائمة أدوات السياسة الرئيسة وذلك في فترة ما بعد الحرب الباردة بين المعسكرين الاشتراكي والرأسمالي. بالمقارنة، منذ تأسيسها لجأت الأمم المتحدة إلى استخدام الجزاءات خلال عقد التسعينات من القرن العشرين أكثر بستة أضعاف مما استخدمتها خلال السنوات الـ 45 التي سبقت ذلك العقد. ومنذ ذلك الحين تزايدت الدراسات والتحليلات الساعية، ضمن أهدافٍ أخرى، إلى قياس فعالية هذا الخيار.[4] بالتفصيل، فرض مجلس الأمن الجزاءات قبل عام 1990 في حالتين فقط هما روديسيا الجنوبية (1966) وجنوب أفريقيا (1977)، مقابل ذلك وبعد انتهاء الحرب الباردة استخدم المجلس العقوبات أكثر من عشرين مرةً.[5]

في العموم، تُفرض الجزاءات الاقتصادية من الأمم المتحدة عبر مجلس الأمن وفق إطارٍ قانوني محددٍ بدقة، إذ يجب أولاً تقرير وجود حالة تهديد للسلام أو خرقاً للسلام أو عملاً من أعمال العدوان وذلك بمقتضى المادة 39 من ميثاق الأمم المتحدة، يلي ذلك فرض الجزاءات الاقتصادية الجماعية بموجب المادة 41 وذلك لتحقيق هدف محدد هو الحفاظ على السلام والأمن الدوليين أو إعادتهما. من جهةٍ ثانية، على مجلس الأمن أن يراعي عند فرض الجزاءات مبادئ قانون حقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني على ألّا يؤدي تطبيق تلك الجزاءات إلى تدهور مستوى معيشة جزءٍ كبير من الأفراد إلى ما دون مستوى الكفاف كما يجب ألّا تحرم العقوبات الأفراد من حقوقهم الأساسية في الحياة والبقاء، وبالمحصلة، يجب وضع حدود لمستوى المعاناة الناجمة عن فرض الجزاءات. يبين الجدول (1) التالي الحدود التي يفرضها القانون الدولي سواء في أوقات النزاع المسلح أم في أوقات السلم.[6]

الجدول (1): الحدود التي يفرضها القانون الدولي في أوقات النزاع المسلح وأوقات السلم

الحدود التي يفرضها القانون الدولي سواء في أوقات النزاع المسلح الحدود التي يفرضها القانون الدولي سواء في أوقات السلم
·                     منع تجويع المدنيين

·                     الحصول على المساعدة الإنسانية

·                     توفير إمدادات الإغاثة في حالات الحصار البحري

·                     توفير إمدادات الإغاثة للأراضي المحتلة

 

·                     الحصول على مستوى لائق من المعيشة بما فيه الغذاء والملبس والمسكن.

·                     الحق في الحياة بالمعنى الواسع بحيث لا تؤدي العقوبات إلى الحرمان من الحياة بسبب التجويع أو عدم تلبية الاحتياجات الأساسية.

·                     الحق في الصحة والحصول على الرعاية الطبية

·                     الحق في التحرر من الجوع

إذن، من المهم التأكيد على أنّ الجزاءات حتى تكون مشروعة يجب أن تُفرض ضمن الإطار القانوني الذي حددته الأمم المتحدة، وبخلاف ذلك لا تكون جزاءات وإنماّ إجراءاتٌ قسرية أحادية الجانب أو إجراءاتٌ تقييدية.

تعد الولايات المتحدة الأمريكية أكثر دول العالم لجوءاً إلى استخدام الجزاءات الاقتصادية خاصةً خارج إطار منظمة الأمم المتحدة وقوانين الشرعية الدولية. تبين الإحصاءات المتاحة قيام وزارة الخزانة الأمريكية حتى شهر تشرين الثاني 2019 بإدراج جزاءاتٍ من مستوياتٍ مختلفة بحق 22 بلداً هي (بيلاروسيا، بروندي، جمهورية أفريقيا الوسطى، كوبا، الكونغو، إيران، العراق، لبنان، ليبيا، مالي، نيكاراغوا، كوريا الشمالية، روسيا، الصومال، السودان، السودان، سورية، أوكرانيا، فنزويلا، اليمن، يوغسلافيا، وزيمبابوي). كما تحتفظ وزارة الخزانة الأمريكية بقائمة عقوبات بحق مواطنين ممنوعين محددة أسماؤهم بشكلٍ خاص وفي تشرين الثاني من عام 2019 تضمنت تلك القائمة 1346 صفحة.[7]

على مستوى الاتحاد الأوروبي، لم تتبنى الجماعة الأوروبية أي جزاءاتٍ خاصة بها حتى عقد الثمانينات من القرن العشرين وإنما كانت الدول الأوروبية تشارك في الجزاءات التي تفرضها الأمم المتحدة بصفتهم أعضاء في المنظمة. كانت أولى العقوبات التي تفرضها الجماعة الأوروبية ضد الاتحاد السوفييتي السابق بسبب غزو أفغانستان. في عام 1992، أطلقت الجماعة الأوروبية ما سُمي وقتها السياسة الخارجية والأمنية المشتركة وفقاً لمعاهدة ماستريخت لتقوية التعاون في مجال فرض الجزاءات، ومنذ ذلك الوقت أصبحت العقوبات أداةً رئيسة في هذه السياسة وارتفع عدد الدول المعاقبة من 6 في عام 1991 إلى حوالي 30 في عام 2018. وخلال الفترة 1980-2014 كان نصيب الاتحاد الأوروبي من الجزاءات الدولية غير الأممية (أي التي لا تتم بموجب قرارات الأمم المتحدة) 36% وجاء الاتحاد في المرتبة الثانية من حيث عدد الدول التي تعاقبها بعد الولايات المتحدة التي بلغت حصتها 36.7%.[8]

السؤال الذي يتبادر إلى الذهن فوراً هو ما سبب تزايد استخدام الجزاءات في السياسة الدولية؟ منطقياً، يمكن القول أنّه لا بدّ أنّ تزايد شعبية الجزاءات وتسارع استخدامها يعكس أحد أمرين إما فعّاليتها العالية في تحقيق أهدافها، أو أنها تحقق مزايا متنوعة للدول التي تفرضها. ينتقل البحث إلى دراسة هذين الخيارين.

2-1 فعالية الجزاءات الاقتصادية الدولية

أشارت الدراسة إلى أنّ استخدام الجزاءات الاقتصادية في السياسة الخارجية يهدف إلى دفع الدول الأخرى لتغيير سلوكياتها وتصرفاتها. نظرياً، من المفترض أن ينتج عن هذه الجزاءات أكبر ضررٍ اقتصادي ممكن حتى تكون رادعةً للدول المستهدَفة وتجبرها على تعديل سياساتها وسلوكياتها وفق رغبات الدول التي تفرض الجزاءات. عملياً، لا يوجد إجماعٌ في الأدبيات المختصة بهذه الموضوع على نجاح تلك الجزاءات في تحقيق هذه الأهداف. أكثر من ذلك، توجد أدلةٌ تشير إلى أن تلك الجزاءات تؤثر سلبياً في اقتصاد الدولة المستهدفة لا سياستها وأنّ تلك الآثار تطال سعر صرف العملة الوطنية ومستوى الفقر والناتج المحلي الإجمالي والتجارة والاستهلاك الحكومي والعمالة.[9]بتفصيلٍ أكبر، تفيد البيانات المأخوذة من عدة دراساتٍ أخرى بأنّ الجزاءات التي فرضتها الأمم المتحدة خلال فترة 10 سنوات أدت إلى تخفيض الناتج المحلي الإجمالي في الدول المستهدفة بالمتوسط بـ2.2% سنوياً وبالمجمل بـ 25%. أما الجزاءات الأمريكية فقد كانت أقل تأثيراً ولكن ليس بكثير حيث أدت إلى تخفيض الناتج المحلي الإجمالي بـ 1% سنوياً وبمجموع 13.4% خلال سبع سنوات. أما على مستوى الدول الفردية، فقد تراجع الدخل الفردي السنوي في العراق من 3510 دولار إلى 450 دولار بين عامي 1989-1996. وأدت الجزاءات الصارمة التي فرضتها الولايات المتحدة الأمريكية خلال فترة رئاسة دونالد ترامب على فنزويلا إلى انهيار الاقتصاد الفنزويلي وتراجعت حصة الفرد من الناتج المحلي الإجمالي بين عامي 2016 و 2019 من 9090 دولار إلى 2550 دولار. وفي الجانب غير الاقتصادي مثلاً أدت الجزاءات الاقتصادية على العراق في التسعينات إلى وفاة أكثر من نصف مليون طفل، كما أظهر تقرير للأمم المتحدة عام 1993 أنّ العقوبات على هاييتي كانت تتسبب في موت 1000 طفل كل شهر.[10]إذن وبالمحصلة، تؤدي الجزاءات الاقتصادية إلى تراجع الأداء الاقتصادي للدولة المستهدفة وتدهور مستويات الصحة العامة وارتفاع أعداد الوفيات سنوياً وفي مقابل ذلك تخفق تلك الجزاءات في تحقيق أهدافها لا سيما عندما يكون أحد تلك الأهداف هو تغيير النظام أو إحداث تغييرٍ كبير في سلوك الدولة المستهدفة وفق أهداف الدولة التي تفرض الجزاءات.[11]

بالإضافة لما تقدم، يوجد جدلٌ كبير حول الأثر السلبي للجزاءات الاقتصادية على التجارة الدولية إذ يشير أحد تيارات هذا الجدل إلى أنّ هذه الجزاءات تتعارض مع الأهداف الرئيسة لمنظمة التجارة العالمية WTO، ففي حين تسعى الأخيرة إلى تحرير التجارة وإزالة العقبات المختلفة التي تعترضها وتقلل من مستوياتها نجد أنّ الجزاءات تؤدي إلى تقييد التجارة وفي الغالب لأسباب غير اقتصادية، أكثر من ذلك، لا يقتصر الأثر السلبي لهذه الجزاءات على الدولة المستهدّفة، إذ وبسبب تزايد مستوى الاعتماد المتبادل والترابط بين الأسواق فإنّ معاقبة بلدٍ ما في أي مجال سيترتب عليه آثار سلبية على بلدان أخرى وقد تكون إحداها الدولة/الدول التي تفرض الجزاءات.[12]

أخيراً، تعرض الدراسة عدداً من الحقائق المهمة ضد الجزاءات الاقتصادية:[13]

  • يكون الأفراد العاديون هم ضحايا الجزاءات الاقتصادية وليس الحكومات.
  • يترتب على الجزاءات الأمريكية آثارٌ عرضية غير مباشرة على مستوى العالم.
  • الجزاءات الاقتصادية تقتل الأفراد.
  • تؤدي الجزاءات إلى حصول أزماتٍ اجتماعية واقتصادية.
  • تؤثر الجزاءات سلبياً في المجتمع المدني والنساء والحركات العمالية.
  • تنتهك الجزاءات الاقتصادية الأمريكية القانون الدولي.
  • في العموم الجزاءات غير فعّالة.
  • تتيح الاستثناءات الإنسانية المرافقة للجزاءات مجالاً محدوداً فقط لتقديم الإغاثة.
  • يفرض الرؤساء الأمريكيون الجزاءات دون الحصول على موافقة الكونغرس .

2-2 مزايا هذا التحول في الدول التي تفرض الجزاءات

وجدت الدراسة في الفقرة السابقة عدم فعالية الجزاءات الاقتصادية في تحقيق أهدافها وبالتالي يجب أن تتمتع هذه الجزاءات بمزايا أخرى تبرر الاستخدام الواسع لها في السياسية الدولية. عملياً، تشير العديد من الدراسات إلى أنّ أهم مزية للجزاءات تبرر شعبيتها هي أنها تحقق كثير من المصالح المحلية للسياسيين، أي تتفق مع مصالح السياسيين في الدول التي تفرض الجزاءات. يمكن مثلاً التأكد من ذلك إذا علمنا أنّه في الغالب عند توجّه الولايات المتحدة الأمريكية لفرض جزاءات اقتصادية ضد دولةٍ ما فإنّه يلاحظ تلكؤ وتردد السياسيين الأمريكيين في تفعيل العمل الدبلوماسي الذي قد يساعد في التوصل إلى حل يمكّن من تفادي فرض تلك الجزاءات. عموماً، ينظر السياسيون وغيرهم إلى الجزاءات على أنها إجراءٌ وسط بين استخدام القوة العسكرية المكلفة مادياً وبشرياً خلال وقتٍ قصير والتي قد تجابه بمعارضة كبيرة داخلياً وخارجياً وبين عدم القيام بأي عملٍ الأمر الذي يُظهر الولايات المتحدة بمظهر الضعيف أو الخائف وهذا يهدد مكانة الولايات المتحدة في النظام الدولي. بين هذين الحدين المتطرفين تبدو الجزاءات الاقتصادية كخيار يُظهر الولايات المتحدة ملتزمةً تجاه القضايا الدولية وتعمل لأجلها ومن غير المحتمل أن يكون لها ارتدادات عكسية داخلها حيث أنّ الضرر المترتب عليها يكون غير مباشر وغير ملاحَظ، كما أنّ الجزاءات الاقتصادية تقتل الأفراد في الدول المستهدفة خلال فترة زمنية أطول مما يجعل أثرها أخف على الأفراد.[14]

باستثناء هذه المزية، تبقى الجزاءات الاقتصادية ذات سلبيات كثيرة كما سبق وأشارت الدراسة، كما وتوجد أدلة تؤكد أنّ الآثار الاقتصادية السلبية تصل أيضاً إلى الدول التي تفرض هذه الجزاءات. في حالة الولايات المتحدة مثلاً، بيّن عددٌ من رجال الأعمال أنّ الآثار السلبية للجزاءات الاقتصادية التي فرضها بلدهم، حتى عندما تكون محدودة، تتخطى القطاعات المشمولة بالجزاءات إلى قطاعاتٍ أخرى غير معاقبة وأنّ هذه الآثار السلبية تستمر حتى بعد رفع الجزاءات حيث تنظر الدول والشركات الأخرى إلى الشركات الأمريكية كمصدرٍ غير موثوق للتعامل معه. في بعض الحالات أيضاً، تتفادى الشركات في الدول الأخرى الشراء من الشركات الأمريكية تحسباً من فرض جزاءات لاحقة تمنعها من متابعة شراء قطع الغيار والتقانات المطلوبة مما يعطي ميزة تنافسية للشركات غير الأمريكية. الأمر الأهم أنّ الشركات الأجنبية التي اشترت سابقاً من شركات أمريكية قد تلجأ في حال فرض جزاءات عليها إلى شركات غير أمريكية لتصنع لها بدائل عن قطع الغيار وتصمم لها بدائل عن التقانات الأمريكية مما يزيد من حجم الخسائر.[15]

3- أنواع الجزاءات الاقتصادية

توجد قائمة من أدوات الجزاءات الاقتصادية المتاحة للاستخدام لمعاقبة بلدٍ ما، ويعرض الجدول (2) التالي أهمها.[16]

الجدول (2): أدوات الجزاءات الاقتصادية

المقاطعة الاقتصادية الحصار البحري الحظر الاقتصادي القوائم السوداء
تتضمن كل الإجراءات الرسمية التي تؤدي إلى قطع العلاقات الاقتصادية بين الدول ودولة أخرى معتدية عندما لا تكون هناك حالة حرب معلنة بينهما. وفقاً لقاموس المصطلحات الحقوقية تمثل المقاطعة “إجراءً تلجأ إليه السلطات الدولية أو هيئاتها وأفرادها المنشغلون بالتجارة لوقف العلاقات التجارية مع دولة أخرى ومنع التعامل مع رعاياها بقصد الضغط الاقتصادي عليها رداً على ارتكابها لأعمالٍ عدوانية” مثل تعليق التعاملات الاقتصادية لا سيما التجارية وقطع كل أشكال العلاقات الاقتصادية والتجارية والمالية وكذلك الاستثمارية؛ والحصار الاقتصادي. يتم اللجوء إلى هذا الإجراء من أجل منع السفن التجارية وناقلات النفط وغيرها من الوصول إلى موانئ البلد المعاقب أو مغادرتها لتلك الموانئ كلياً أو جزئياً. يمكن أن يكون الحصار البحري سلمياً أو حربياً. كما يُقسم الحصار البحري السلمي بدوره إلى أنواع ثلاثة هي الحصار البحري القانوني والإنساني والسياسي. أي فرض عقوبات على التعامل مع الشركات التابعة للدول المستهدفة بالجزاءات، ومنع الاستثمار في بعض قطاعاتها الحيوية كالنفط والصناعات الحيوية، وحظر تصدير بعض السلع إليها سيما الاستراتيجية منها، ويضاف لما سبق الحظر المالي والجوي. إدراج الأشخاص أو المؤسسات أو الكيانات التابعين للدولة المستهدفة والمتورطين في أعمال غير قانونية أو انتهاكات إنسانية في قوائم سوداء، بحيث تُطبق عليهم أحكام الدولة المعتدية فيما يتعلق بالحظر والمقاطعة.

 

 

4- الحروب الاقتصادية على سورية

عند دراسة وتحليل الحروب الاقتصادية التي تعرضت لها سورية تجدر الإشارة أنّ الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي كانا دائماً الطرفين الرئيسين في كل حالة حرب اقتصادية ضد سورية.

4-1 الحرب الاقتصادية على سورية: الولايات المتحدة الأمريكية[17]

تاريخياً، اتسمت العلاقات السورية الأمريكية بعدم الاستقرار المستمر في جميع المجالات السياسية والاقتصادية وانعكس هذا الوضع على المجالات الأخرى، وفي العموم كانت حالة التوتر في العلاقات بين الدولتين هي القاعدة وعدم التوتر هو الاستثناء. من السهل تفسير هذا الوضع حيث يعود سببه الرئيس إلى التباين في المواقف بين الدولتين من القضية الفلسطينية وعملية السلام في الشرق الأوسط. فبينما تلتزم سورية موقفاً مبدئياً وطنياً يضع القضية الفلسطينية محوراً له ويعارض أي عملية سلام في المنطقة لا تعيد الحقوق العربية نجد أنّ الولايات المتحدة بالمقابل تلتزم موقفاً منحازاً لصالح الكيان الصهيوني مستهتراً بالحقوق العربية عامة والسورية خاصة لا سيما فيما يتعلق بالجولان العربي السوري المحتل. هذه الحقيقة مهمة جداً في كل دراسة موضوعية للإجراءات الاقتصادية القسرية أحادية الجانب أو تلك الجماعية التي تشنها الولايات المتحدة بمفردها أو مع دول أخرى ضد سورية. تتجلى أهمية هذه الحقيقة في أنها تجعل الولايات المتحدة الأمريكية دولةً غير مؤهلة لتقديم تقويمٍ موضوعي لمجريات الحياة السياسة والاقتصادية والاجتماعية في سورية وأنّ أي قرار تتخذه له صلة بسورية لا بد وأن يكون منحازاً وغير موضوعي بدرجةٍ كبيرة جداً.

عموماً، منذ قيام الولايات المتحدة الأمريكية بوضع سورية على قائمة الدول الراعية للإرهاب في عام 1979 كانت سورية هدفاً دائماً للجزاءات الأمريكية حيث تمّ اتخاذ جملة من الإجراءات القسرية أحادية الجانب ضد سورية من خلال أوامر تنفيذية وقوانين تصدرها السلطات الأمريكية، يعرض الجدول (3) التالي أهم تلك الأوامر منذ عام 2004.

الجدول (3): عدد من لأوامر التنفيذية الرئيسة الخاصة بسورية (2004-2012)

الرقم التاريخ الأمر التنفيذي
13608 1\5\2012 حظر بعض المعاملات مع الأشخاص المتهربين من العقوبات المتعلقة بإيران وسورية ومنع منحهم سمة دخول إلى الولايات المتحدة
13606 23\4\2012 تجميد الممتلكات وتعليق الدخول إلى الولايات المتحدة لأشخاص محددين فيما يتعلق بالانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان من قِبل حكومتي إيران وسورية
13582 18\8\2011 تجميد ممتلكات الحكومة السورية وحظر معاملات محددة فيما يتعلق بسورية
13573 18\5\2011 تجميد ممتلكات مسؤولين رفيعي المستوى في الحكومة السورية
13572 29\4\2011 تجميد ممتلكات أشخاص محددين فيما يتعلق بانتهاك حقوق الإنسان
13460 15\2\2008 تجميد ممتلكات أشخاص آخرين فيما يتعلق بحالة الطوارئ الوطنية المتعلقة بسورية
13399 26\4\2006 تجميد ممتلكات أشخاص آخرين يتعلق بحالة الطوارئ الوطنية المتعلقة بسورية
13338 12\5\2004 تجميد ممتلكات أشخاص محددين وحظر تصدير سلع محددة إلى سورية

بالإضافة إلى هذه الإجراءات المتتالية، توجد محطتان أساسيتان ضمن مجموعة الجزاءات الاقتصادية الأمريكية بحق سورية هما قانون محاسبة سورية واستعادة السيادة اللبنانية أو ما يُعرف بقانون بولتون (2004) وقانون قيصر/سيزر (2019) وهذان القانونان تمّ تقديمها من قبل النائب إليوت إنجل (Engel, Eliot L.) عن الحزب الجمهوري.

أولاً. قانون محاسبة سورية واستعادة السيادة اللبنانية

ينص القانون على فرض مجموعة من الإجراءات التقييدية على سورية ما لم يقرر الكونغرس أنّ سورية تفي بالشروط المنصوص عليها في القانون. وتنص المادة 5 (أ) (2) من القانون على أن يختار الرئيس عقوبتين أو أكثر من قائمة تضم ستة إجراءات عقابية، وهي على وجه التحديد:

  1. حظر تصدير منتجات الولايات المتحدة.
  2. حظر الشركات الأمريكية التي تستثمر أو تعمل في سورية.
  3. تقييد سفر الدبلوماسيين السوريين إلى داخل دائرة نصف قطرها 25 ميلا من نشرهم في الولايات المتحدة.
  4. حظر على الناقلات الجوية السورية الإقلاع والهبوط والطيران فوق الولايات المتحدة.
  5. الحد من الاتصالات الدبلوماسية الأمريكية مع سورية.
  6. منع الأشخاص الأمريكيين من الدخول في أي معاملات ملكية مع الحكومة السورية.

ثانياً. قانون قيصر/سيزر

تمّ تقديم القانون في عام 2016 من أجل رض عقوبات على الاقتصاد السوري تحت اسم (قانون قيصر/ سيزر)، وتمّ تعديله وعُرض على مجلس النواب في آذار 2017 ولم يتم رفع القانون إلى المستويات الأعلى في ذلك الوقت. في 22 كانون الثاني 2019 أقرّ مجلس النواب الأمريكي بالإجماع القانون مرةً ثانية، مع تعديل الفترة الزمنية الخاصة به لتصبح لمدة عشر سنوات، بعد أن كان لمدة عامين في المرة الأولى، وفي 20 كانون الأول 2019 وقّع الرئيس الأمريكي القانون مع تخفيض فترته الزمنية إلى خمس سنوات. استند القانون إلى دليل غير مقنع قانونياً وهو شهادة ما سمي بالضابط السوري المنشق باسمه الحركي (قيصر) الذي قدم 53275 صورة لمشاهدة تعذيب داخل السجون السورية. بموجب هذا القانون تقوم الولايات المتحدة الأمريكية، بدون قرار من مجلس الأمن، باتخاذ إجراءاتٍ عقابية ضد سورية تشمل خليطاً من الإجراءات الدبلوماسية وأخرى اقتصادية قسرية “لإلزام الحكومة السورية على وقف هجماتها على الشعب السوري والانتقال إلى حكومة ديمقراطية تحترم القانون وحقوق الإنسان والعيش المشترك مع جيرانها”.

وفيما يلي استعراض موجز لأهم بنود القانون:

أ. فرض حصارٍ مالي على سورية من خلال تطبيق إجراءات لمنع التعامل مع مصرف سورية المركزي لاتهامه بالضلوع في عمليات غسل أموال، وهذه التهمة وردت بالصيغة نفسها في قانون بولتون 2004 ولم تقدم الولايات المتحدة منذ ذلك التاريخ أي دليل على صحتها.

ب. معاقبة الأشخاص الأجانب الذين يتعاملون مع الحكومة السورية من خلال منعهم من دخول الولايات المتحدة وتجميد ممتلكاتهم فيها في حال تورطهم بأنشطة محددة مثل (1) تقديم الدعم المالي أو العيني أو التقني لحكومة الجمهورية العربية السورية، (2) بيع أو توفير سلع أو خدمات أو تقنيات أو معلومات أو غيرها تساهم في تسهيل  عمليات الإنتاج المحلي للغاز الطبيعي أو النفط أو المنتجات النفطية أو صيانتها أو توسيعها، (3) بيع أو تامين قطع غيار للطائرات المدنية السورية التي يمكن استخدامها في مجالات عسكرية، (4) تقديم خدمات هندسية أو إنشائية إلى الحكومة السورية

ج. فرض عقوباتٍ بحق الأفراد السوريين المسؤولين عن انتهاك حقوق الإنسان ضد مواطني سورية أو أفراد عائلاتهم وتشمل قائمة الأفراد رئيس الجمهورية العربية السورية، ورئيس مجلس الوزراء ونائبه، ومجلس الوزراء، ورؤساء القوى العسكرية والأمنية بمختلف فروعها وأقسامها، إدارة معهد البحوث والدراسات العلمية، ومستشارون للسيد رئيس الجمهورية، ومدراء السجون، المحافظون في جميع المحافظات السورية، وغيرهم. على أن يتم تحديث قائمة الأشخاص المعاقبين

4-2الحرب الاقتصادية على سورية: الاتحاد الأوروبي

بشكلٍ عام، كانت العلاقات السورية الأوروبية أكثر هدوءاً واستقراراً مقارنةً بالعلاقات السورية الأمريكية، وفيما تعكس الثانية حالةً من التأزم المستمر والتباعد بين البلدين تُظهر الأولى نهجاً تعاونياً وسعياً مشتركاً للتقارب تمثّل في عدة محاولات رسمية لتفعيل العلاقات وتطويرها مثل اتفاقية الشراكة السورية الأوروبية والشراكة الأورومتوسطية أو عملية برشلونة. لكن مع بداية الأزمة/ الحرب على سورية عام 2011 اتخذ الاتحاد الأوروبي نهجاً مختلفاً عن نهجه السابق وكان إلى حدٍّ كبير متماهياً مع النهج الأمريكي العدائي لسورية، وتبنى الاتحاد الأوروبي مجموعة من الإجراءات التقييدية العقابية، ويمكن تقسيم هذه الإجراءات إلى ست مجموعات كما يلي:[18]

المجموعة الأولى: تستهدف الحكومة السورية وبموجبها منع الاتحاد الأوروبي المدفوعات المالية وأية مساعدات يقدمها بنك الاستثمار الأوروبي لسورية أو أية مِنح أو قروض جديد من الدول الأعضاء في الاتحاد. في عام 2011 كان بنك الاستثمار الأوروبي يشرف على 17 مشروعاً في سورية. كما تم تصميم الإجراءات للتأكد من منع الفاعلين في القطاع الخاص في أوروبا من تقديم القروض لمشاريع التعاون التي توقفت لا سيما بناء محطات الطاقة. كما تضمنت المجموعة حظر تقديم خدمات التأمين للحكومة السورية أو فتح مكاتب جديدة للبنوك السورية في الاتحاد الأوروبي أو مكاتب جديدة للبنوك الأوروبية في سورية، وتجميد أصول مصرف سورية المركزي في الاتحاد الأوروبي ومنع تداول السندات الحكومية مع الحكومة السورية والهيئات والمؤسسات المالية العامة.

المجموعة الثانية: تستهدف الأفراد المشاركين في “أعمال القمع”

المجموعة الثالثة: تستهدف “الأجهزة القمعية” في الدولة والمقصود بها الجيش والقوات المسلحة بهدف منع تزويده بالمعدات العسكرية والمساعدات الفنية والمالية المرتبطة بها وكذلك برمجيات التنصّت على الاتصالات عبر الإنترنت والهاتف.

المجموعة الرابعة: تستهدف خاصةً قطاع الطاقة بهدف قطع مصدر الإيرادات المالية للحكومة السورية. وتتضمن حظر مستوردات النفط والمنتجات البترولية من سورية ومنع تقديم التأمين لهذا القطاع أو تقديم التقانة لقطاع النفط والغاز الطبيعي أو تقديم القروض للمشاريع في مجال الصناعة النفطية. أيضاً تستهدف هذه المجموعة قطاع الطاقة الكهربائية من خلال منع المشاركة في تشييد محطات توليد طاقة كهربائية جديدة أو تقديم المساعدات الفنية والمالية وتأسيس شركات مشتركة في هذا المجال. تعد هذه المجموعة الأكثر تأثيراً بسبب الحجم الكبير للمستوردات النفطية من سورية وكذلك صعوبة الحصول على خدمات تأمين بديلة لشحنات النفط من سورية.

المجموعة الخامسة: تُعنى بالقيود على التجارة وتتضمن حظر طائرات الشحن ومنع صادرات بعض السلع مثل السلع الكمالية والذهب والألماس والمعادن الثمينة.

المجموعة السادسة: تتضمن الحظر السياسي الذي فرضته بعض الدول الأوروبية (بلجيكا، فرنسا، إيطاليا، هولندا وإسبانيا) من خلال إغلاق سفاراتها في دمشق.

تشير بعض الدراسات إلى أنّ الجزاءات الأوروبية التي فُرضت على سورية عقب بداية الأزمة/ الحرب عليها كانت غير مسبوقة لعدة أسباب:[19]

أولاً. استخدم الاتحاد الأوروبي تقريباً جميع الإجراءات العقابية خلال أقل من سنة واحدة، بينما كانت العادة أن يتم تطبيق الجزاءات تدريجياً على مدى عدة سنوات.

ثانياً. تضمين الجزاءات حظراً على قطاع الطاقة من خلال منع استيراد النفط من سورية وهو إجراءٌ قلّما يستخدمه الاتحاد الأوروبي في حال عدم وجود قرار ملزم من مجلس الأمن.

ثالثاً. تمت الموافقة على الجزاءات بناءً على طلب من جامعة الدول العربية وليس الأمم المتحدة، وهو إجراءٌ لم تلجأ إليه جامعة الدول العربية في تاريخها سوى مرة واحدة ضد العراق في بداية عقد الـ 1990.

5- الآثار الاقتصادية للحروب الاقتصادية على سورية

بدايةً، لا بدّ من التأكيد على أنّ جميع الإجراءات القسرية أحادية الجانب المفروضة على سورية سواء الأمريكية أو الأوروبية أو غيرها هدفها الأساسي غير اقتصادي وهي تأتي، بغض النظر عن المبررات التي تفبرك لها، في سياق الضغط على سورية لتغيير مواقفها السياسية والسير وفق المخططات الغربية. عملياً، تؤكد الدراسات شيوع توظيف الجزاءات الاقتصادية لتحقيق أهداف ذات طبيعة غير اقتصادية، مثلاً تمّ فرض الجزاءات الأوروبية بالتوازي مع الجزاءات الأمريكية لدعم مطالبات الطرفين التي كان أولها الطلب من الرئيس بشار الأسد التفاوض مع المعارضة ومن ثمّ وقف “أعمال القمع” ومن ثم تنحيه عن الرئاسة. كذلك تشير الدراسة إلى أنّ هذه العقوبات ترافقت من جهة مع توجّه بعض الدول مثل المملكة المتحدة والولايات المتحدة وبعض الدول العربية المجاورة لسورية نحو تسليح المعارضة، ومن جهةٍ ثانية مع تزايد الحديث في الأوساط السياسية الأوروبية بالتوجّه نحو تنفيذ عمل عسكري في سورية.[20]

إلا أنّه وبغض النظر عن الأهداف الحقيقية غير المعلنة للإجراءات القسرية أحادية الجانب على سوريةـ ترتب على تلك الإجراءات تداعياتٌ اقتصادية وغير اقتصادية خطيرة، تستعرض الدراسة فيما يلي بعضاً منه.

أ. الناتج المحلي الإجمالي: بين عامي 2010 و2015 تراجع الناتج المحلي الإجمالي في سورية بحوالي 75% وبالرغم من أنّ الأزمة/ الحرب على سورية هي المسؤولة عن جزءٍ كبير من هذه الخسارة، إلا أنّ هذا التراجع غير المسبوق لا يمكن تفسيره إلا بسبب الجزاءات الاقتصادية التي تصفها الولايات المتحدة بأنها “أحد الإجراءات العقابية الأكثر صعوبةً وتعقيداً والأكثر شمولاً بين العقوبات التي تمّ فرضها في التاريخ”.[21]

ب. التجارة الخارجية: ترتب على التباطؤ الاقتصادي المترافق مع الحصار على سورية آثارٌ مباشرة على التجارة الخارجية حيث تراجعت الصادرات والمستوردات بـ 89% و 60% على التوالي بين 2011 و 2014 على التوالي. الأمر الآخر، الذي يرتبط أكثر بالحصار، كان تغيّر اتجاهات التجارة الخارجية أو ما يُسمى بالشركاء التجاريين الرئيسين لسورية ففي عام 2010 كانت الصادرات السورية إلى دول العراق وإيطاليا وألمانيا تستحوذ على 29% و 18% و18% على التوالي من مجموع الصادرات السورية، أما خلال الفترة 2011-2014 فقد كان ترتيب الدول كالآتي ألمانيا ثم إيطاليا فالعراق. بالنسبة للمستوردات فخلال الفترة 1011-2014 كانت الصين ثم تركيا ثم روسيا هي المُصدّرة الرئيسة لسورية وفي عام 2010 كان الترتيب تركيا ثم الصين ثم إيطاليا.[22]

ج. العلاقات مع الاتحاد الأوروبي: كانت اتفاقية التعاون بين سورية والاتحاد الأوروبي والمعدّلة لاحقاً مرتين في عامي 1986 و 1994 الإطار الرسمي الرئيس الذي يحكم العلاقات الاقتصادية بين الجانبين. والاتحاد الأوروبي هو أحد أهم الشركاء التجاريين لسورية كما أن سورية هي دولة عضو في الاتحاد من أجل المتوسط وتم تعليق مشاركتها في سياسة الجوار الأوروبية عام 2011. تبع ذلك العديد من الإجراءات العقابية مثل حظر الاتحاد الأوروبي استيراد النفط والمنتجات النفطية من سورية، قيود على صادرات الاتحاد الأوروبي إلى سورية من المعدات المستخدمة في مجالات النفط والغاز والاتصالات وحظر على صادرات سلع الرفاهية إلى سورية، وتجميد الأصول العائدة لأشخاص (حوالي 200) وكيانات (تقريباً 70) سوريين/ سورية مما أدى إلى تراجعٍ كبير في مستويات التجارة.[23]

كما شملت العقوبات قيود على الأموال التي يمكن للبنوك الأوروبية تقديمها إلى سورية ومنع صادرات السلع ذات الاستخدام المزدوج وكذلك على قطاعات بأكملها كالكهرباء والنفط والغاز بما فيها المساعدات الفنية والمالية والاستثمار في محطات الطاقة الكهربائية. بالمقابل، كانت القيود والضوابط على الصادرات أشد في الجانب الأمريكي حيث تمّ منع مشاركة أي فرد أو كيان أمريكي في صفقات تجريها سورية، وبالتالي منع أي بنك أمريكي أو غير أمريكي من المشاركة في صفقات تجريها الحكومة السورية بالدولار الأمريكي. كما تمّ منع تصير المنتجات الأمريكية إلى سورية وكذلك المنتجات غير الأمريكية التي تحتوي على 10% مساهمة أمريكية.[24]

د. تقديم المساعدات الإنسانية في أثناء الأزمة/الحرب على سورية: بالرغم من استثناء إرسال المساعدات الإنسانية إلى سورية من برامج الجزاءات إلا أنّ الإجراءات الفعلية على أرض الواقع كانت غامضة وغير متوقعة وطويلة زمنياً وكانت في كثيرٍ من الأحيان تتطلب إجراءاتٍ قانونية مكلفة، كما واجه تقديم المساعدات الإنسانية صعوباتٍ تتعلق بالتمويل وإرسال الأموال إلى سورية ومنها معاقبة كل من ينتهك العقوبات سواء أكان واعياً لذلك أم لا بالإضافة إلى تهديدات بفرض غراماتٍ كبيرة مما دفع البنوك لرفض معالجة معاملات المساعدات الإنسانية المموّلة بالدولار الأمريكي حتى عندما تكون تلك المعاملات قانونية.[25]دفع ذلك إلى تحويل الأموال إلى الدول المجاورة عبر النظام المصرفي ومن ثم بشكل غير رسمي إلى الداخل السوري. وبالمحصلة أدى ذلك إلى تأخير وصول المساعدات الإنسانية وفي بعض الأحيان منع وصولها.

هـ الصناعات الدوائية: أثرت الجزاءات كثيراً في الصناعات الدوائية السورية حيث تمت إعاقة مصانع الأدوية من الحصول على المواد الأولية اللازمة لصناعة الأدوية بسبب تردد الموردين في التعامل معها نتيجة صعوبات في الدفع والخوف من العقوبة في حال اتهامهم بانتهاك قواعد العقوبات والحظر على سورية.[26] وقد أوردت إحدى الدراسات حالة أحد شركات صناعة الأدوية في مدينة حلب حيث أوضحت الحالة أنّ الشركة تمتلك الأموال اللازمة للشراء لكن لا تستطيع تحويلها أو وضعها في البنك أو استخدامها أبداً في أعمالها. ولم يقتصر الأثر السلبي هنا على الشركات السورية، حيث تشير الدراسات إلى وضع صعوبات كبيرة أمام منظمات حقوق الإنسان عند محاولتها استيراد الأدوية والتجهيزات الطبية الأساسية أو حتى معالجة التبرعات القادمة من الخارج. [27][28]

و. صناعة توليد الكهرباء: بفعل استهداف هذا القطاع في أعمال التخريب خلال الأزمة/الحرب أصبح في حاجة ماسّة للخدمات الرئيسة والصيانة التحديثية الأساسية الأمر الذي يتطلّب توفير قطع الغيار وإعادة تشغيل التجهيزات وشراء تقاناتٍ جديدة. وبالرغم من محاولة المانحين الدوليين بالتوازي مع الأمم المتحدة معالجة هذه الأمور على امتداد البلد إلا أنّ هذه المحاولات واجهات عقبات عديدة مرتبطة بالعقوبات مثل مشاكل الحصول على تراخيص السماح، وتكاليف امتثال المصدرين التي منعت كثيراً منهم من التعامل مع المنظمات الدولية.[29]

ز. توزيع الدخل: لا توجد حالياً دراسات مفصلة لتأثير الإجراءات الاقتصادية القسرية أحادية الجانب التي تفرضها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي على توزيع الدخل في سورية. لكن، يمكن التنبؤ نسبياً بأنّ تلك العقوبات سيكون لها آثار ضارة جداً في هذا المجال حيث توجد أدلة قوية من دراسة حالات 68 دولة خلال الفترة 1960-2008 بأنّ اللاعدالة في توزيع الدخل تزداد بسبب الجزاءات وأنّ للعقوبات المالية والتجارية آثارٌ مختلفة في هذا المجال وأنّ الآثار السلبية تتعمق مع ازدياد فترة تطبيق العقوبات.[30]

ح. الصحة العامة: يبين الواقع العملي وكذلك الدراسات المختلفة حصول تراجعٍ كبير في مؤشرات الصحة والتغذية في سورية خلال فترة الحرب/ الأزمة عليها منذ عام2011، إلا أنّ الجزء الأكبر من هذا التراجع سببه الجزاءات الدولية وليس الحرب لسببين، أولاً أنّ الغالبية العظمى من السكان تعيش في المناطق التي تخضع لسيطرة الحكومة وثانياً أنّ التراجع في تلك المؤشرات كان شاملاً في جميع المجالات، أيضاً تراجعت معدلات تلقيح الأطفال بين عام 2006 و 2016 من 95% إلى 60% مما أدى إلى إعادة ظهور بعض الأمراض التي تمّ القضاء عليها سابقاً.[31]

6- الخاتمة

قدمت الدراسة تحليلاً للحرب الاقتصادية على سورية التي بدأت أولى مراحلها منذ بدايات عقد الثمانينات من القرن العشرين عندما أطلقت الولايات المتحدة الأمريكية قائمة الدول الراعية للإرهاب ووضعت عليها اسم سورية. بعدها، تعددت وتزايدت الإجراءات القسرية أحادية الجانب التي تفرضها الولايات المتحدة في إطار حربها على سورية، فصدر قانون محاسبة سورية واستعادة السيادة اللبنانية (قانون بولتون 2004).

شكّلت الأزمة/ الحرب على سورية نقطة انعطاف في مسار الحرب الاقتصادية عليها وكان لافتاً انضمام جهات أخرى لهذه الحرب وأولها الاتحاد الأوروبي وهو الشريك الاقتصادي الأساسي لسورية. فعلّت الولايات المتحدة إجراءاتها القسرية أحادية الجانب وفق مسارٍ تصاعدي وصل مرحلةً متقدمة مع صدور قانون قيصر/ سيزر 2019 وأصبحت هذه الإجراءات وفق كثيرٍ من الدراسات حرباً اقتصادية غير مسبوقة. بالمقابل، اتخذ الاتحاد الأوروبي مجموعة كبيرة من الإجراءات القسرية أحادية الجانب شملت كل المجالات التجارية والمالية وقطاعات النفط والغاز والطاقة وغيرها.

لا تتوفر حتى الآن بياناتٌ وافية تمكّن من تقديم تقديراتٍ دقيقة للخسائر الاقتصادية وغير الاقتصادية التي تكبدتها سورية نتيجة هذه الإجراءات، لكن بيّنت مراجعة عددٍ من الدراسات المختصة أنّ الآثار السلبية شملت تراجع الناتج المحلي الإجمالي وتدهور الصادرات والمستوردات وتضرر قطاعات الطاقة الثلاث (النفط والغاز والكهرباء) وازدياد مستوى الفقر وعدم المساواة في توزيع الدخل وتردي مستوى الصحة وخسائر في الصناعة لا سيما صناعة الأدوية وإلحاق الضرر بعمليات الإغاثة الإنسانية التي تقوم بها المنظمات الدولية في سورية.

7- المراجع

  1. حمد، صلاح الدين (2015). “أثر الدبلوماسية الاقتصادية في التنمية الاقتصادية: سورة أنموذجاً” أطروحة دكتوراه، قسم الاقتصاد، كلية الاقتصاد، جامعة دمشق.
  2. سيغال، آنا (1999).”العقوبات الاقتصادية القيود القانونية والسياسية” المجلة الدولية للصليب الحمر، العدد 836.https://www.icrc.org/ar/doc/resources/documents/misc/5r2agc.htm
  3. عيسى، هيثم (2020).”قانون قيصر\سيزر والعلاقات السورية الأمريكية” المرصد العمالي للدراسات والبحوث، الاتحاد العام لنقابات العمالي، سورية.
  4. Afesorgbor, S. and Mahadevan, R. (2016). “The Impact of Economic Sanctions on Income Inequality of Target States”, Economics Working Papers, Department of Economics and Business Economics, Aarhus University.
  5. CEPR – Center for Economic and Policy Research (2020). “The Case Against Economic Sanctions”,Washington.
  6. Hanania, R. (2020). “Ineffective, Immoral, Politically Convenient: America’s Overreliance on Economic Sanctions What to Do about it”, Policy Analysis N0. 884, CATO Institute.
  7. Hufbauer, G., Elliot, K., Cyrus, T. and Winston, E. (1997). “US Economic Sanctions: Their Impact on Trade, Jobs, and Wages”, Peterson Institute for International Economics PIIE Working Paper.
  8. Khalid Abu-Ismail et. al. (2016). “Syria at War: Five Years on” ESCWA and University of St. Andrews.
  9. Masters, J. (2019). “What are Economic Sanctions” Council on Foreign Relations. https://www.cfr.org/backgrounder/what-are-economic-sanctions
  10. Oskarsson, K. (2012). “Economic Sanctions on Authoritarian States: Lessons Learned”, Middle East Policy, Vol. XIX , No. 4.
  11. Portela, C. (2012). “The EU Sanctions against Syria: Conflict Management by other Means?”, UNISCIA Papers, (30), 151-158.
  12. Russell, M. (2018). “EU Sanctions: A Key Foreign and Security Policy Instrument”, Briefing European Parliament Research Service.
  13. Samaha, N. (2019). “The Economic War on Syria: Why Europe Risks Losing”, European Council on Foreign Relations.
  14. Smeets, M. (2018). “Can Economic Sanctions be Effective?”, World Trade Organization, Economic Research and Statistics Division, Staff working paper ERSD-2018-3.
  15. Walker, J. (2016). “Study on Humanitarian Impact of Syria-Related Unilateral; Restrictive Measures” Report prepared for ESCWA”, National Agenda for the Future of Syria”.

 

 

* أستاذ مساعد، قسم الاقتصاد، كلية الاقتصاد، جامعة دمشق.

[1]يُستخدم مصطلح “العقوبات” بشكلٍ واسع وحتى في بعض الدراسات المختصة، إلا أنّه غير مستخدم في ميثاق الأمم المتحدة وإنما يتم استخدام مصطلحي “التدابير والإجراءات” بدلاً عنه. في العموم، يُجمع كثيرٌ من فقهاء القانون الدولي على استخدام مصطلح “الجزاءات” وليس العقوبات. للمزيد في هذا المجال انظر، عيسى، هيثم (2020) “قانون قيصر/سيزر والعلاقات السورية الأمريكية” المرصد العمالي للدراسات والبحوث، الاتحاد العام لنقابات العمالي، سورية.

[2]حمد، صلاح الدين (2015) “أثر الدبلوماسية الاقتصادية في التنمية الاقتصادية: سورية أنموذجاً” أطروحة دكتوراه، قسم الاقتصاد، كلية الاقتصاد، جامعة دمشق.

[3] Masters, J. (2019). “What are Economic Sanctions”, Council on Foreign Relations. https://www.cfr.org/backgrounder/what-are-economic-sanctions

[4]Oskarsson, K. (2012). “Economic Sanctions on Authoritarian States: Lessons Learned”,Middle East Policy, Vol. XIX, No. 4.

[5]Masters, J. (2019). “What are Economic Sanctions”, Council on Foreign Relations. https://www.cfr.org/backgrounder/what-are-economic-sanctions

[6]سيغال، آنا (1999). “العقوبات الاقتصادية القيود القانونية والسياسية” المجلة الدولية للصليب الأحمر، العدد 836.

https://www.icrc.org/ar/doc/resources/documents/misc/5r2agc.htm

[7]Hanania, R. (2020). “Ineffective, Immoral, Politically Convenient: America’s Overreliance on Economic Sanctions What to Do about it”, Policy Analysis N0. 884, CATO Institute.

[8]Russell, M. (2018). “EU Sanctions: A Key Foreign and Security Policy Instrument”, Briefing European Parliament Research Service.

[9]Afesorgbor, S. and Mahadevan, R. (2016). “The Impact of Economic Sanctions on Income Inequality of Target States”, Economics Working Papers, Department of Economics and Business Economics, Aarhus University.

[10]Hanania, R. (2020). “Ineffective, Immoral, Politically Convenient: America’s Overreliance on Economic Sanctions What to Do about it”, Policy Analysis N0. 884, CATO Institute.

[11] المرجع السابق

[12]Smeets, M. (2018). “Can Economic Sanctions be Effective?” World Trade Organization, Economic Research and Statistics Division, Staff working paper ERSD-2018-3

[13]CEPR – Center for Economic and Policy Research (2020). “The Case Against Economic Sanctions”Washington.

[14]Hanania, R. (2020) “Ineffective, Immoral, Politically Convenient: America’s Overreliance on Economic Sanctions What to Do about it” Policy Analysis N0. 884, CATO Institute.

[15]Hufbauer, G., Elliot, K., Cyrus, T. and Winston, E. (1997) “US Economic Sanctions: Their Impact on Trade, Jobs, and Wages” Peterson Institute for International Economics PIIE Working Paper.

[16]عيسى، هيثم (2020). “قانون قيصر/سيزر والعلاقات السورية الأمريكية” .المرصد العمالي للدراسات والبحوث، الاتحاد العام لنقابات العمالي، سورية.

[17]عيسى، هيثم (2020). “قانون قيصر/سيزر والعلاقات السورية الأمريكية”. المرصد العمالي للدراسات والبحوث، الاتحاد العام لنقابات العمالي، سورية.

[18]Portela, C. (2012). “The EU Sanctions against Syria: Conflict Management by other Means?”, UNISCIA Papers, (30), 151-158.

[19]Portela, C. (2012). “The EU Sanctions against Syria: Conflict Management by other Means?”, UNISCIA Papers, (30), 151-158.

[20]Portela, C. (2012). “The EU Sanctions against Syria: Conflict Management by other Means?”, UNISCIA Papers, (30), 151-158.

[21]Hanania, R. (2020). “Ineffective, Immoral, Politically Convenient: America’s Overreliance on Economic Sanctions What to Do about it”, Policy Analysis N0. 884, CATO Institute.

[22] Khalid Abu-Ismail et. al. (2016). “Syria at War: Five Years on” ESCWA and University of St. Andrews.

[23] المرجع السابق

[24] المرجع السابق

[25]Walker, J. (2016). “Study on Humanitarian Impact of Syria-Related Unilateral; Restrictive Measures” Report prepared for ESCWA “National Agenda for the Future of Syria”.

[26] Khalid Abu-Ismail et. al. (2016). “Syria at War: Five Years on” ESCWA and University of St. Andrews.

[27]Hanania, R. (2020). “Ineffective, Immoral, Politically Convenient: America’s Overreliance on Economic Sanctions What to Do about it”, Policy Analysis N0. 884, CATO Institute.

[28]Samaha, N. (2019). “The Economic War on Syria: Why Europe Risks Losing”, European Council on Foreign Relations.

[29] Khalid Abu-Ismail et. al. (2016). “Syria at War: Five Years on” ESCWA and University of St. Andrews.

[30]Afesorgbor, S. and Mahadevan, R. (2016). “The Impact of Economic Sanctions on Income Inequality of Target States”, Economics Working Papers, Department of Economics and Business Economics, Aarhus University.

[31]Hanania, R. (2020). “Ineffective, Immoral, Politically Convenient: America’s Overreliance on Economic Sanctions What to Do about it”, Policy Analysis N0. 884, CATO Institute.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

سبعة + 3 =

آخر الأخبار