إستراتيجيات التنمية الإقتصادية لدول شمال إفريقيا

إستراتيجيات التنمية الإقتصادية لدول شمال إفريقيا

فؤاد الصباغ – كاتب تونسي و باحث اقتصادي

تشهد دول شمال إفريقيا في السنوات الأخيرة تباطؤ في نسق التنمية الإقتصادية و ذلك نتيجة لتدهور الأوضاع الإقتصادية و الإجتماعية و السياسية خاصة بعد ما يسمي بالربيع العربي الكبير. إذ هذا التردي في أغلب مؤشرات التنمية الإقتصادية منذ سنة 2011 حتى الآن كان سببه الأساسي تزايد الإعتصامات و الإضرابات العشوائية التي شلت بصفة عامة بعض الإقتصادات الوطنية بدول شمال إفريقيا.

نذكر من بين هذه الدول الشمال إفريقية مصر و ليبيا و تونس و الجزائر و المغرب، التي في مجملها كانت ضحية تمرد الشعوب على الأنظمة السابقة نتيجة لتدهور أوضاعهم الإجتماعية و ذلك للمطالبة بتحسين الظروف المعيشية و الزيادة في الأجور خاصة بما يسمي “إضراب عام” نقابات الشغل. كما يمكن تحديد نمط كل إقتصاد من جملة تلك الإقتصاديات التي تختلف من دولة إلى أخرى وفقا لعوامل داخلية و خارجية  قصد تطبيق إستراتيجيات تنموية تتلائم مع طبيعتها الإقتصادية و الإجتماعية.

أولاً – الإقتصاد المصري الذي يعتمد بالأساس على نهج ليبرالي رأسمالي في منظومة التنمية الإقتصادية و خاصة منها على المساعدات الأمريكية و التبادل التجاري في المنطقة نظرا لإرتفاع العدد السكاني و التكاليف الباهظة لتسديد الدين العمومي الداخلي و تغطية العجز المالي في الميزانية العامة. إلا أنه على  الرغم من مجمل تلك العوائق الإقتصادية يمثل الإقتصاد المصري اليوم قوة نواة صاعدة و واعدة لمواجهة الأزمات نظرا للموقع الجغرافي و المرافق الحيوية المتوفرة فيه و خاصة منها معبر قناة السويس الذي يدر على الميزانية المصرية عوائد مالية محترمة، بالإضافة إلى ثروة الغاز الطبيعي. عموما تمثل الإستراتيجية التنموية لجمهورية مصر العربية رافدا حيويا من أجل الإنفتاح الكلي على الأسواق الخارجية و التحرر المالي الداخلي و الإندماج في العولمة الإقتصادية و تحرير الأسعار و الرفع من نسق المردودية و المنافسة في الأسواق العالمية. أيضا الإستفادة من العلاقات الممتازة مع الولايات المتحدة الأمريكية و دول الجوار من أجل تحفيز التنمية وجلب الإستثمارات الأجنبية و توظيف المعونة و المساعدات في تقليص نسبة الفقر بين الطبقات و الجهات.

ثانياً – تجربة الجماهيرية الليبية العظمى سابقا تحت حكم نظام العقيد معمر القذافي التي شهدت فترة طويلة من الحكم الإشتراكي الثوري الذي يعتمد بالأساس على الحكم المركزي و الثروة الوطنية للجماهير وفق المنظور الإقتصادي  للعالم الإقتصاد ماركس. كانت تمثل تلك الإستراتيجية التنموية الليبية السابقة منطلقا حيويا لتوزيع ثروة العوائد البيترولية على جميع الطبقات الإجتماعية بصفة عادلة. بالتالي تسيطر الدولة على جميع القطاعات الإقتصادية و تنحصر التنمية بالأساس في إستغلال عوائد النفط و توظيفها في إنجاز مشاريع تنموية زراعية كبري مثل النهر الصناعي العظيم الذي حول الصحراء إلى خضراء و فتح أسواق شعبية كبري و ذلك بالتحالف التجاري مع الجمهورية الصينية الشعبية. إلا أن هذه التجربة التنموية المركزية الإشتراكية إنتهت مباشرة بعد سقوط نظام القذافي و تشكيل حكومة ليبرالية جديدة تتمتع بعلاقات دولية ممتازة بين جميع الأطراف في السلطة الليبية الحالية. بالنتيجة تم تحرير الإقتصاد الليبي و بدأت تدخل في أسواقه شركات إستثمارية أجنبية أمريكية و بريطانية و أوروبية و ذلك في شتى القطاعات الحيوية خاصة منها الإستثمارات في قطاع النفط و العقارات و البنية التحتية.

ثالثاً – الإقتصاد التونسي الذي شهد بدوره فترة طويلة منذ الإستقلال إلى الآن العديد من برامج و مخططات التنمية الإقتصادية التي طبعت كل مرحلة من المراحل الذي وقع فيها التغيير الجذري في إستراتيجياتها. إذ مع بداية الستينات إعتمدت تونس مخططات تنموية متتالية منها الثلاثي و الرباعي و أيضا الخماسي، بحيث تقع خلال كل فترة من تلك الفترات تحديد البرامج و الأهداف التي تراهن عليها الدولة لتحقيق أهدافها الإستشرافية خاصة منها نسبة النمو الإقتصادي، و إنجاز المشاريع الكبرى و تقليص نسبة البطالة. كما إنتهجت تونس بعد إستقلالها عن المستعمر الفرنسي تجربة إشتراكية طموحة خاصة خلال فترة حكم الإقتصادي أحمد بن صالح الذي إعتمد بالأساس على الإستراتيجية الإشتراكية المركزية و ذلك بإنجاز مصانع حكومية و مناطق صناعية كبري تحت إشراف الحكومة و التمويل العام. كذلك ساهم صندوق التعويض الوطني في تقليص الفقر و الفوارق بين الطبقات و سهل عملية الحركة الإقتصادية. إلا أن هذه التجربة الطموحة بنشاط الشاب بن صالح آنذاك إنهارت وفقا لتقرير صادر من البنك الدولي يوضح أن التجربة الإشتراكية أثقلت ميزانية الدولة و المالية العمومية التونسية بديون مهولة تسببت في عجز مالي حاد. إذ سارعت الحكومة بتغيير النظام الإقتصادي و الإستنجاد بالخبير الإقتصادي الرأسمالي الهادي نويرة الذي قام خلال حقبة حكمه بتحرير الأسواق المحلية تدريجيا و إنتهج منظومة التحرر المالي و التجاري و إعتمد مفهوم الخصخصة في جميع القطاعات مستفيدا بذلك من الدعم المالي الأجنبي لإنقاذ الإقتصاد الوطني من نتيجة فشل التجربة الإشتراكية و سياسة التعاضدية، فتواصل ذلك التحرير في أغلب قطاعات الدولة حتي موفي أواخر الثمانينات. إلا أن تدهور الأوضاع الإجتماعية و سوء الحالة الصحية للزعيم الراحل الحبيب بورقيبة و ثورة الخبز مثلت في مجملها عوامل لسقوط النظام و ذلك على الرغم من مبادرة الإقتصادي رشيد صفر لخلق نوع من العدالة الإجتماعية نتيجة للفقر المدقع الذي تعيشه أغلب الطبقات الإجتماعية التونسية. فسارعت بالنتيجة الحكومة الجديدة الذي كان شعارها الإنقاذ الإقتصادي و الإجتماعي و السياسي، بحيث ساهم الليبرالي الرأسمالي الرئيس السابق زين العابدين بن على في وضع الإقتصاد التونسي على طريق التحرر و الإنفتاح على الأسواق الأجنبية و الإندماج الإيجابي في العولمة المالية و الإقتصادية. إذ مثلت تلك المرحلة تغيير حقيقي حيث تدخل صندوق النقد الدولي مباشرة في الإقتصاد الوطني و ذلك بوضع برنامج التأهيل الشامل و الإصلاح الهيكلي لشتي القطاعات الإقتصادية و التحرر الكلي مستفيدا بذلك من القروض الضخمة التي ضخت في شريان الإقتصاد التونسي منذ بداية التسعينات. لكن تلك التجربة في تطبيق الإستراتيجية التنموية الرأسمالية إنهارت بسبب تفاقم البطالة و النقمة لدي جميع الطبقات الإجتماعية نتيجة الفقر و التهميش و المحسوبية و الفساد المالي و الإداري و ذلك من خلال ثورة إجتماعية التي أطاحت بالنظام السابق و رموزه مع بداية سنة 2011. فجاء التغيير الثاني في الإقتصاد الوطني التونسي تحت حكومة جديدة إنتهجت إستراتيجية جديدة تعتمد على اللامركزية التنموية للحد من الفوارق الإجتماعية بين الطبقات و الجهات، لكن لم تدم طويلا تلك التجربة حيث وقع تغيير الحكومة مع بداية إنتخابات 2014 نتيجة لعدة عوامل من أهمها عدم الإستقرار الأمني، الإقتصادي، الإجتماعي و السياسي. عموما خلال تلك الفترة تم تحديد برنامج مخطط التنمية 2016-2020، لكن نتائجه لم تثمر بعد نتيجة لتراكم العجز المالي في الميزانية و تفاقم المديونية و التقاعس في العمل و البطء في الإنتاجية و تواصل الإعتصامات المتقطعة مع تباطؤ النمو الإقتصادي.

رابعاً – يعتمد الإقتصاد الجزائري بالأساس على النهج الإشتراكي المركزي التقدمي خاصة من خلال مجانية إستغلال المياه الوطنية من قبل الشعب و العديد من الخدمات الحكومية المجانية. بالإضافة إلى ذلك التبادل التجاري مع الصين الشعبية و اعتماد الأسعار المنخفضة للحد من الفوارق الإجتماعية. أما القطاع العام فهو يعد أهم قطاع بالجزائر حيث يضم ما يقارب المليون موظف حكومي. أيضا تعتمد الجزائر على المركزية للحد من الفوارق الإجتماعية و المساهمة في توزيع الثروة بطريقة عادلة بين الجهات و تستغل العوائد من القطاع الخام في خلق مناخ اقتصادي و استثماري جيد يحقق نسبة نمو إقتصادي جيدة. فعلى الرغم من سقوط النظام السابق لعبد العزيز بوتفليقة، إلا أن إقتصاده لم ينهار و ظل متماسكا طيلة السداسي الأول من سنة 2019 نظرا لقوة مردودية و إنتاجية شركات الغاز و المحرقات.

خامسا – المغرب فهي تنتهج استراتيجية ليبرالية رأسمالية منذ حكم الحسن الثاني للمملكة بحيث حقق ذلك النهج التحرري الإزدهار و الإستقرار للشعب المغربي و ساهم في تعزيز المبادلات التجارية مع الإتحاد الأوروبي و في تحرير أغلب القطاعات الحيوية و في خلق مناخ إستثماري يعد الأول و الأنجع تنافسيا في شمال إفريقيا. إذ تمثل المغرب حاليا الوجهة المفضلة للإستثمار الأجنبي المباشر، أيضا تمثل وجهة سياحية عالمية ممتازة. كما يمثل الفوسفات المغربي أبرز قطاع حيوي يدعم الميزانية الوطنية المغربية بعوائد مالية هامة و التي تساهم ايجابيا في إنجاح الإستراتيجية التنموية الليبرالية و الإنفتاح علي الأسواق العالمية و خاصة منها الأوروبية.

فؤاد الصباغ

كاتب تونسي و باحث اقتصادي

آخر الأخبار