العولمة الرقمية: بين الواقع و الخيال

فؤاد الصباغ باحث من تونس

العولمة الرقمية: بين الواقع و الخيال

فؤاد الصباغ باحث من تونس

أوحت العولمة الرقمية التي شهدتها أغلب الدول المتقدمة و حتي السائرة في طريق النمو لنا بأن عالمنا هذا المعولم في أبسط جزئياته قد تغيرت في صلبه المفاهيم و الممارسات ليصبح معتمدا بشكل مباشر علي العالم الافتراضي و مقلصا لولوجه للعالم الواقعي. وأضحت تلك المتغيرات العالمية واقعا ملموسا في جميع معاملاتنا اليومية مما جعل الاتصال بجهاز الحاسوب و شبكة الإنترنت جزء لا يتجزأ في خدمات الإدارات العمومية لجميع دول العالم و جل الشركات العالمية الخاصة. أما أبرز حدث شهدته العولمة الرقمية يتمثل بالأساس في ظهور العديد من الشركات الرقمية التي تستغل تكنولوجيات المعلومات و الاتصال الرقمي كجزء رئيسي من معاملاتها التجارية أو الخدماتية أو المالية. فتلك التحولات الجذرية لا يمكن بأي حال من الأحوال استنكارها حتى من قبل أصحاب القلم و القرطاس بحيث تغيرت الوسائل البحثية و المهنية بشكل ملحوظ و غير الإنسان من بيئته و من وسائل عمله على مرور الزمن في أي مكان و زمان. فمنذ نشأ الكون و المتغيرات أخذت تتسارع و تتضح مع مرور السنين للجميع بحيث خلق الإنسان بعقله السيارة و الطائرة و القطار و أبرز شيء حديث خلقه لنفسه مؤخرا متمثلا بامتياز في عالم افتراضي متكامل الأبعاد و الأهداف و موازي في محتواه و في أبسط جزئياته لعالمه الواقعي. منذ سنة 2000 وحتى الآن تسارعت الاختراعات التكنولوجية و برزت العديد من التقنيات الحديثة كالروبوت الآلي بديلا للإنسان و تقلصت الوثائق الورقية و الأدوات التقليدية لتحل محلها الأوراق الإلكترونية و الأدوات التكنولوجية في شتي المجالات بدون أي استثناء في هذا المضمار، و لعل أبرز دليل على ذلك هو الرهان المستقبلي لأغلب دول العالم على مجتمع المعرفة و الذكاء الاصطناعي و الاقتصاد الرقمي. فتلك المتغيرات في قطاعات الدولة الحيوية أصبحت بدورها افتراضية جزئيا أو إجمالا في جميع إداراتها العمومية مما جعل من وثائقها رقمية خاصة منها بالدول المتقدمة. أما الأهم من كل ذلك في صلب تلك العولمة الرقمية هو بروز ظاهرة التعليم عن بعد التي أصبحت واقعا ملموسا في جميع المؤسسات التعليمية العامة أو الخاصة. كذلك انتشار التسويق الإلكتروني و التجارة الإلكترونية كوسائل للبيع و الترويج علي منصات التواصل الاجتماعي و مواقع الواب. أيضا بروز المحلات التجارية الإلكترونية و المالية الرقمية و الافتراضية التي غيرت من المفاهيم التقليدية التي تعتمدها الأسواق المالية و خاصة منها بورصة الأوراق النقدية و التداولات المالية بحيث برزت عملات رقمية افتراضية و أصبح التداول في الأسواق المالية متاحا للجميع على شبكة الإنترنت.

إدارات إلكترونية و وثائق رقمية:

مما لاشك فيه تحولت أغلب الإدارات العمومية لأغلب دول العالم تقدما من استعمال القلم و دفتر السجلات إلى عالم الواب الافتراضي و الوثائق الرقمية بحيث أصبحت أحيانا المعاملات المالية و المبادلات التجارية و الخدماتية اليومية في مجملها تدار عن بعد. فالإدارات الإلكترونية أصبحت تعتمد مباشرة علي التكنولوجيات الحديثة لتسريع عملها و تنظيم أرشيف وثائقها و ضبط سجلاتها بأكثر دقة و سرعة فائقة. إذ في الماضي كانت المعاملات الإدارية اليومية تتطلب وقتا طويلا و انتظارا عقيما و ذلك من أجل استخلاص فواتير الكهرباء، الماء، الإنترنت أو لاستخراج مضمون ولادة و سجل تجاري أو حتى تأشيرة سفر، اليوم أصبحت كل تلك الخدمات متوفرة على شبكة الإنترنت البوابة الرئيسية لجل تلك المعاملات و ذلك بمجرد ضغط بسيط على زر الحاسوب. كما بدأت تنتشر تلك الخدمات كظاهرة عصرية لتسريع المعاملات الإدارية و الإستخلاصات المالية و ذلك بسهولة كبرى على شبكة الإنترنت. أما البنوك فقد خصصت بدورها الساحب الآلي و بطاقات الإئتمان الذكية لتسهيل جميع المعاملات المالية السريعة الخارجية للمواطنين. كما أن الوثائق الإدارية لم تعد تعتمد بشكل كبير علي الأوراق المكلفة و الملوثة للبيئة و غيرها في صلب معاملاتها بحيث أصبحت أغلب الوثائق الإدارية إلكترونية و تمثل جزء لا يتجزأ من عمليات إعادة تأهيل و هيكلة الإدارات العمومية لتواكب المتغيرات العالمية.

التعليم عن بعد:

دخل التعليم اليوم جيله الرابع في شتي فروعه من أقسام التحضيري و الابتدائي إلي التعليم العالي و البحث العلمي معتمدا بذلك علي شبكة الإنترنت كبوابة رئيسية للتواصل و الاتصال من أجل تقديم المحاضرات و أشغال الدروس التطبيقية الرقمية و غيرها من برامج التعليم. في الماضي كان التعليم يعتمد على أبسط الوسائل للتدريس و مع مرور السنوات تحسنت بشكل ملحوظ تلك الوسائل لتبلغ مؤخرا آخر صيحة لها بالتحول من القاعات التقليدية إلي القاعات الافتراضية. هذا ليس بالهزل أو التهريج وبكل واقعية و ثبات يمثل استراتيجيا تغييرا جذريا للتعليم المستقبلي بحيث تكمن أهمية دراسات خبراء تكنولوجيات الاتصال و المعلومات من أجل تطوير البنية التحتية للتعليم الرقمي. إن الدول المتقدمة و على رأسها دول الاتحاد الأوروبي و كندا و أمريكا قطعت أشواطا طويلة على درب إصلاح البنية التحتية الرقمية لجل جامعاتها لتخلق في صلبها بوابات رقمية تقدم محاضرات و أيضا أشغال تطبيقية و حتى تأطير للبحوث العلمية و ذلك عن بعد داخل تلك القاعات الافتراضية و هي تعتبر بدورها موازية للتعليم الواقعي التقليدي. كما بدأت في هذا الصدد تبرز مدارس رقمية، معاهد و جامعات إلكترونية و افتراضية لتقديم الدروس عن بعد بدون حضور إجباري للطلاب و الأساتذة و التعليم كله أصبح يدار من خلف الستار و بالتحديد عبر القاعات الافتراضية المتواجدة علي شبكة الإنترنت. فتلك المؤسسات التعليمية الإلكترونية أصبحت تحظي باهتمام كبير من قبل وزارات التعليم و التعليم العالي في الدول المتقدمة بحيث أصبحت تسهل لها من عمليات الترخيص للعمل عن بعد و توفر لها جميع الإمكانيات المادية و التقنية لإنجاحها حتى تواكب العولمة الرقمية بشكل ناجح و ناجع. كذلك تحولت قاعدة البيانات المكتبية و البحوث العلمية من كتب و مقالات علمية و رسائل أطروحات الدكتوراه إلي وثائق رقمية بحيث أصبح يسهل للباحث الولوج لها في أسرع وقت ممكن داخل تلك الجامعات أو خارجها.

التسويق الإلكتروني و التجارة الإلكترونية:

مع انتشار شبكة الإنترنت كوسيلة للتواصل و التعارف بين الأفراد و الشعوب بدأت معها تبرز شركات إلكترونية عملاقة لترويج و لبيع منتجاتها و لعل أكبرها و أضخمها محلات شركة الأمازون الإلكترونية الأمريكية لبيع جميع المنتجات من إلكترونيك و ملابس جاهزة و أحذية و كتب و عطورات و مجوهرات و غيرها. فهنا تكمن أهمية تلك التجارة الحديثة في حياتنا اليومية التي سهلت بدورها من عمليات التسويق و شراء المنتجات المرغوب فيها بفائق الدقة في الاختيار و السرعة و الاستخلاص عن بعد. أما في المقابل فالتجارة الإلكترونية أصبحت تحظي باهتمام كبير من قبل الجميع خلال السنوات الأخيرة بحيث برزت العديد من الدراسات العلمية و البحثية داخل الجامعات أو حتى لدي الخبراء في ذلك القطاع و أيضا أصبحت مورد رزق و استثمار لجيل التجار الرقميين الجدد لتبرز علي شبكة الإنترنت العديد من الشركات للترويج و التسويق الإلكتروني لتلك المنتجات أو حتى بروز محلات تجارية خاصة للبيع بالعمولة. بالإضافة إلي ذلك بدأت الإعلانات الإلكترونية تكتسح جميع مواقع التواصل الاجتماعي و البريد الإلكتروني و برزت تلك الخدمات التجارية الإلكترونية بشكل ملحوظ من أجل جلب الحرفاء المستهدفين و رفع نسق البيع و الشراء عن بعد علي شبكة الإنترنت.

أسواق الفوركس:

تعد أسواق الفوركس الحدث البارز في العولمة الرقمية بحيث أصبحت منتشرة علي شبكة الإنترنت بشكل رهيب و غريب فيها الصالح و الطالح. يكمن في تلك الأسواق التي تعتمد بشكل مباشر على شراء و بيع العملات أو الذهب و الفضة و النفط و ذلك باستثمار مالي بسيط يتراوح بين 1.000 إلى 2.000 دولار. فمن المعروف أن البورصات العالمية الكبرى منها وول ستريت لا تتداول بتلك الاستثمارات البسيطة بحيث تقوم ببيع مساحة لها لبعض شركات الفوركس التي تمثل الوسيط بينها و بين تجار العملة الصغار. بالتالي تحولت شبكة الإنترنت إلى مواقع تداول للعملات و غيرها مثل ما يحدث بأسواق البورصة تماما و أصبح تجار العملة يحققون أرباحا محترمة خاصة منهم أصحاب الخبرة المالية و الصبر الطويل و قراءة المتغيرات المستقبلية. تعتبر المعلومات هامة في اتجاه تذبذب المؤشرات و الشموع اليابانية داخل البرمجيات الخاصة لتجارة الفوركس. كما أن دراسة تلك التجارة أصبحت تحظى باهتمام كبير لدي خبراء مالية الأسواق من خلال الاستئناس بتجربة رجل المال و الأعمال و المضارب المشهور بالأسواق المالية العالمية جورج سورس و المنظر الرئيسي لاستراتيجيات استخدام سوق الفوركس. فهنا تكمن أهمية شبكات الاتصال و البحث عن المعلومات علي شبكة الإنترنت من أجل قراءة المؤشرات المستقبلية بشكل جيد قبل حدوثها و الاستثمار الناجح في تلك الأسواق الصاعدة و الواعدة علي شبكة الإنترنت و التي أصبحت تحقق لتجار الفوركس أرباحا بالمليارات يوميا.

فؤاد الصباغ – كاتب تونسي و باحث اقتصادي.

ملاحظة: المستشار الاقتصادي لا يتحمل أي مسؤولية عن الآراء الواردة ، وتبقى المسؤولية على عاتق الكاتب.

آخر الأخبار