كتاب التوافقية والمأزق المستمر في النظام اللبناني

تأليف الدكتور كميل حبيب، عرض/ نقولا طعمة

كتاب التوافقية والمأزق المستمر في النظام اللبناني

تأليف الدكتور كميل حبيب، عرض/ نقولا طعمة

هل ما تزال التوافقية -كسمة للحكم- صالحة لتحقيق الاستقرار السياسي في لبنان؟ ومتى يتوقف النظام الطائفي عن إنتاج الأزمات التي عانى كثيراً من ويلاتها اللبنانيون؟ هل صحيح أن الحرب الأهلية هي البديل عن التوافقية؟ وماذا عن إمكانية بناء دولة حديثة قائمة على مبادئ العدالة والمساواة تنأى بلبنان عن الضغوطات الداخلية والخارجية التي أظهر النظام الطائفي هشاشة متفوقة في التعاطي معها؟

هذه الأسئلة وغيرها حاول الباحث الدكتور كميل حبيب معالجتها في هذا الكتاب الذي ينقسم إلى قسمين رئيسيين: يتضمن الأول ستة فصول، في حين يعد الثاني عبارة عن دراسة ميدانية وعملية استطلاع لآراء أساتذة الجامعة اللبنانية حول واقع وآليات إصلاح النظام اللبناني.

يعالج الفصل الأول معنى التوافقية على المستوى النظري وآليات عملها في مجتمع متعدد، كما يسلط الضوء على شروط العمل بالتوافقية كأسلوب للحكم، وهي ثلاثة شروط: الانقسام الاجتماعي، والتمثيل النسبي لكل الشرائح الاجتماعية في الحكم، ووجود تقليد تاريخي للتوافق. وهذه الشروط متوافرة في لبنان منذ أيام المتصرفية التي اعتمدت منذ منتصف القرن التاسع عشر.

ويخلص الكاتب في هذا الفصل إلى مقولتين: الأولى تفيد بأنه لا يمكن الجمع بين التوافقية والديمقراطية، فبينما تعني الديمقراطية حكم الأكثرية، أي أكثرية سياسية، تعتمد التوافقية على تمثيل كل مكونات المجتمع في الحكم، بدون الحديث عن أكثرية وأقلية.

أما المقولة الثانية فترى أن التوافقية تبقى آلية هشة لصنع الاستقرار وتثبيته، وأنها غير قادرة على معالجة الأزمات الاجتماعية والاقتصادية، وأن نجاحها رهن بتوازنات داخلية وخارجية دقيقة.

هذه التوازنات وفرت للبنان نوعاً من الاستقرار السياسي منذ مطلع الاستقلال عام 1943 وحتى منتصف سبعينيات القرن الماضي (الفصل الثاني)، وكانت ركيزة ذلك الاستقرار انشغال الدول العربية المجاورة بحروب مع الدولة الصهيونية، ووجود طبقة سياسية مسيطرة على طوائفها، وتعي تماماً حدود خطر الخلافات السياسية.

الحروب الأهلية وانهيار التوافقية:

وهكذا، ففي الفصل الثالث يناقش حبيب الأسباب الداخلية والخارجية التي أدت إلى حروب أهلية على مدى 15 عاماً وانهيار التوافقية، فعلى المستوى الداخلي يذكر المؤلف أن التوافقية انهارت أمام استفحال الانقسام الطائفي، والتغيير الديمغرافي، وعدم تعاون زعماء الطوائف لمنع الحرب، وبروز زعماء للمليشيات غير ملتزمين بالتوافق، وعدم البحث عن خيارات وبدائل لحل الأزمات الاقتصادية والاجتماعية، وبروز ظاهرة الفساد، وانهيار القيم الاجتماعية والثقافية التي اجتمع حولها اللبنانيون في زمن مضى.

أما على المستوى الخارجي، فالأسباب التي أدت إلى انهيار التوافقية عام 1975 يمكن إيجازها على النحو التالي:

1- الأطماع الصهيونية في المياه والأرض اللبنانية.

2- التعايش الصعب بل المستحيل بين مستلزمات المقاومة الفلسطينية وحقوق الدولة اللبنانية، فالوجود الفلسطيني المسلح مثَّل انتهاكاً سافراً للسيادة اللبنانية وساهم إلى حد كبير في “عسكرة” المجتمع اللبناني.

3- اعتبار سوريا أن ما يجري في لبنان يشكل تهديداً مباشراً لأمنها، الأمر الذي دفعها لإرسال وحدات من جيشها إلى لبنان في يونيو/حزيران 1976.

إن انفجار الحرب الأهلية عام 1975 يضعنا أمام المسائل التالية:

1- التوافقية لا تقوم بوظيفتها الأساسية المرجوة منها عندما تكون الحاجة ماسة إليها، أي في زمن الأزمات.

2- غياب عناصر المناعة في النظام الطائفي يفتح الباب أمام بروز حالة اللا استقرار والفوضى.

3- غياب التعاون والحوار بين زعماء الطوائف يؤدي إلى حصول كوارث.

4- التوافقية لا تنجح في حالة غياب الوفاق الوطني، والمساعدة والدعم الإقليمي والدولي.

“من الأسباب الداخلية التي أدت إلى انهيار التوافقية استفحال الانقسام الطائفي، والتغيير الديمغرافي، وعدم تعاون زعماء الطوائف لمنع الحرب، وبروز زعماء للمليشيات غير ملتزمين بالتوافق”

ولقد ظهر كل ذلك جلياً إبان الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982 (الفصل الرابع)، فمع وصول الثلاثي الإرهابي (بيغن، شارون، إيتان) إلى الحكم في تل أبيب، حاولت الكيان الصهيوني من وراء غزوه للبنان تحقيق الأهداف التالية:

  • تدمير البنية التحتية لمنظمة التحرير الفلسطينية.
  • إجبار سوريا على سحب جيشها من الأراضي اللبنانية.
  • إجبار لبنان على توقيع معاهدة سلام مع الدولة العبرية.

ورغم أن الجيش الصهيوني تمكن خلال غزوه من احتلال مدينة بيروت وإجبار منظمة التحرير على الخروج منها إلى أماكن شتات جديدة، فإن إسرائيل فشلت في تحقيق أي من أهدافها السياسية:

  • لم ينسحب الجيش السوري، وكان لوجوده السبب الثاني المباشر في إلغاء اتفاق 17 مايو/أيار 1983.
  • بروز المقاومة اللبنانية والإسلامية التي أبلت البلاء الحسن في دحر الجيش الصهيوني.
  • انطلاق الانتفاضة الوطنية الفلسطينية في الأراضي المحتلة، مما يعني أن الروح الوطنية الفلسطينية لم تندثر رغم الهزيمة التي لحقت بمنظمة التحرير الفلسطينية في لبنان.
  • الإدانة الدولية لإسرائيل وتحميلها مسؤولية مجازر صبرا وشاتيلا.
  • تصاعد الدور السوري وتأثيراته على الواقع السياسي اللبناني.

استقرار 1990-2005:

لم يتم العمل باتفاق الطائف (الفصل الخامس)، ولقد عهد إلى دمشق رعاية الخلافات بين اللبنانيين. إلى جانب ذلك، فإن الاستقرار الداخلي منذ عام 1990 وحتى عام 2005 كان يرتكز على عمودين كبيرين: ظاهرة المقاومة الممثلة بحزب الله، وظاهرة الرئيس رفيق الحريري. ولقد قام الأخير بجهود مضنية للتوفيق بين نجاح المقاومة ومنطق الدولة التي أثمرت تفاهم أبريل/نيسان 1996 الذي شرعن المقاومة على الساحتين المحلية والدولية.

ولقد ساعد ذلك حزب الله على تحقيق نصر تاريخي على إسرائيل مجبراً إياها على الانسحاب من معظم الأراضي اللبنانية المحتلة دون قيد أو شرط. وسيبقى يوم 25 مايو/أيار 2000 يوماً مشرقاً في تاريخ لبنان، البلد العربي الوحيد الذي ألحق الهزيمة بجيش إسرائيل. لكن هذا اليوم هو أيضاً يوم تصاعد الدعوة المسيحية للجيش السوري بالخروج من لبنان.

واستمر السجال الداخلي دائراً بين مؤيد ومعارض للوجود العسكري السوري إلى أن بلغ ذروته مع صدور قرار مجلس الأمن رقم 1559 الذي زاد من حالة الشرخ والانقسام بين اللبنانيين، وفتح الباب مجدداً على أزمة سياسية حادة بدأت مع اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري (الفصل السادس).

لقد أحدث ذلك الاغتيال زلزالاً سياسياً تخطى إلى حد كبير حدود الوطن الصغير ليشمل منطقة الشرق الأوسط برمتها، كما كان له تداعيات خطيرة نذكر منها:

  • انكشاف لبنان أمنيا، وبروز ظاهرة الاغتيال السياسي بشكل لافت والتي طالت العديد من قادة السياسة والرأي والأمن.
  • اندفاع الرئيس الأميركي جورج بوش لتحقيق مشروع “الفوضى البناءة” عبر لبنان بعد احتلاله العراق.
  • شن إسرائيل حرب يوليو/تموز 2006 بغية القضاء على حزب الله، العمود الآخر في لبنان بجانب الرئيس الحريري.
  • بداية أزمة سياسية كبرى في لبنان لم يتمكن اللبنانيون من إيجاد الحل الشامل لها حتى اليوم.

“الاصطفافات المذهبية لا تؤدي إلى الوحدة الوطنية, فتحالف طائفة مع أخرى يساوي فقط ذلك التحالف في مواجهة طوائف أخرى، الأمر الذي يغذي روح الشك والخوفَ عند كل الأقليات التي تؤلف مجتمعة مكونات المجتمع اللبناني”

إدانة النظام الطائفي:

يتضمن الكتاب نقداً قاسياً للنظام السياسي الطائفي الذي يعتبر العميد حبيب أنه نظام لا ينتج إلا الأزمات، كما أن الاصطفافات المذهبية لا تؤدي إلى الوحدة الوطنية. وفي نظر المؤلف فإن تحالف طائفة مع أخرى يساوي فقط ذلك التحالف في مواجهة آخر من طوائف أخرى، الأمر الذي يغذي روح الشك والخوفَ عند كل الأقليات التي تؤلف مجتمعة مكونات المجتمع اللبناني.

كما أن النظام الطائفي قد حرم اللبنانيين من تذوق طعم الديمقراطية، ففي لبنان لا يمكن الحديث عن الديمقراطية في ظل الطائفية السياسية، وهذا الأمر أنتج إشكاليات في المؤسسات الدستورية التي لا تتضمن تمثيلاً حقيقياً لكل الشرائح الاجتماعية.

ففي مؤسسة مجلس الوزراء مثلا، قد يتم توزير أشخاص يمثلون أقليات في طوائفهم على حساب آخرين يعطون تمثيلاً أقوى لطوائفهم. كما أن النظام الطائفي يشرع الأبواب أمام التدخل الإقليمي والدولي في الشؤون الداخلية اللبنانية.

وأخيراً، فإن النظام الطائفي لا يحقق المساواة بين اللبنانيين، ويقضي على طموح الأفراد وبخاصة المبدعين منهم، ويمنع -عكس لغة العقل- التعاطي مع المسائل المطروحة بشكل علمي.

وعليه، ففي القسم الثاني من كتابه يلجأ حبيب إلى زملائه من أساتذة الجامعة اللبنانية -الجامعة الوطنية الوحيدة في لبنان- لاستطلاع رأيهم في نظامهم الطائفي، وكيفية الخروج منه إلى رحاب الدولة المدنية الحديثة.

ولقد أظهرت تحليلات نتائج البحث الميداني توافق الأساتذة على المبادئ التالية:

  • الطائفية السياسية تشكل عائقاً أمام بناء الدولة الحديثة.
  • التمثيل السياسي على الأساس الطائفي لا يحمي الوطن من أخطار التقسيم والابتلاع والتوطين.
  • النظام الطائفي يجعل المساواة والعدالة حكراً على بعض اللبنانيين دون سواهم، خاصة على حساب أبناء الطوائف الذين يعيشون خارج المدن.
  • توافق الطوائف لا يحقق مصلحة لبنان العليا لأنه من مصلحة الطائفيين الممسكين بزمام الأمور أن تبقى الدولة -بمفهومها الحديث- غير قادرة وغير فاعلة.
  • هدف الوحدة العربية ليس من أولويات اللبنانيين.
  • إسرائيل هي العدو ومنبع الخطر والتهديد للبنان ولأمن اللبنانيين.

 

حل مقترح للأزمة:

بناءً على ما تقدم، يرى المؤلف أن بناء الدولة المدنية في لبنان أمر ممكن ويحتمل العمل من أجله، ويلحظ أن حل الأزمة اللبنانية ممكن التحقيق على مستويين:

أولهما- على مستوى المجتمع المدني، إذ يرى حبيب أن الحوار هو الطريق الأفضل لإيجاد الحلول لمأزق النظام، ولكن هذا الحوار يستوجب الشروط التالية:

  • أن يكون حواراً مفتوحاً وغير خاضع لضغط الوقت.
  • ألا يقتصر على بعض الساسة، بل يجب أن تشارك فيه النقابات والأحزاب ومؤسسات المجتمع المدني.
  • ألا يقتصر على المسائل الإستراتيجية، بل يجب أن تتم مناقشة قضايا أخرى مثل المساواة بين المرأة والرجل، ودعم الشباب، وحماية البيئة.

الثاني- على المستوى البنيوي، إذ يطرح المؤلف الحلول التالية:

  • إقرار قانون الزواج المدني الاختياري.
  • اعتماد النسبية لاختيار ممثلي الشعب في الندوة البرلمانية، وعلى أساس لبنان دائرة انتخابية واحدة.
  • إنشاء مجلس للشيوخ يمثل الطوائف وتنحصر اهتماماته في القضايا المصيرية الكبرى.
  • إقرار اللامركزية الإدارية الموسعة.
  • اعتماد الكفاءة أساساً للتوظيف.
  • على الدولة -الحلقة الأضعف في النظام الطائفي- أن تصبح أولوية في حياة المواطن. بمعنى آخر، على الدولة أن تلعب دورها في توفير الضمان الصحي والاجتماعي ومنح القروض السكنية لجميع أبناء الوطن. وهذا وحده كفيل بأن يصبح المواطن متحرراً من القيد الطائفي والولاء المذهبي.
  • دعم الجيش الوطني ووضع إستراتيجية دفاع وطنية حتى يصبح كل مواطن خفيرا ومقاوما في وجه إسرائيل.
  • دعم استقلالية القضاء عبر إيجاد آلية جديدة لتعيين القضاة تمنع التدخل السياسي في هذا الأمر.
  • الفصل بين السلطتين التشريعية والتنفيذية بعدم توزير النائب.
  • إقرار قانون يشجع قيام الأحزاب الوطنية العابرة للطوائف.
  • “بناء الدولة المدنية أمر ملح لا يحتمل التأجيل، ويتطلب تضافر كل جهود أبناء الوطن، وإلا فإن لبنان -ذلك الجمال المجنون- سيبقى مجنوناً”
  • دعوة مجلس النواب لتفسير المادة 49 من الدستور، إذ ماذا يعني القول بأن رئيس الجمهورية هو “حامي الدستور ورمز وحدة البلاد”؟ ألا يحق لمؤسسة الرئاسة أن تمتلك حق النقض، ويكون لها الكلمة الفصل في كل سياسات الدولة؟
  • وضع الخطط لإنماء المناطق اقتصادياً واجتماعيا وثقافياً كمدخل لمحاربة تنامي الأصوليات.
  • انتهاج سياسة الحياد الإيجابي في أية خلافات عربية.
  • اعتبار المغتربين سلاحاً إستراتيجياً يجب العمل على استثماره عبر تشجيعهم على الانخراط في الحياة الوطنية.
  • إقامة أفضل العلاقات وتطويرها مع سوريا.
  • دعوة المثقفين إلى العمل على بلورة الفكرة اللبنانية، أي استكمال ما بدأه الأستاذ ميشال أسمر في الندوة اللبنانية لمساعدة اللبنانيين على رسم تصور مشترك لمصلحة لبنان العليا.
  • العمل على نشر ثقافة الحوار، والانفتاح، واحترام الآخر، وحقوق الإنسان بين اللبنانيين حتى لا يصبح المستقبل فكرة مشؤومة حقاً.

وفي ختام كتابه، ينتهي حبيب إلى القول “إن بناء الدولة المدنية أمر ملح لا يحتمل التأجيل، ويتطلب تضافر كل جهود أبناء الوطن، وإلا فإن لبنان -ذلك الجمال المجنون- سيبقى مجنوناً”.

المصدر: الجزيرة، العدد 289 – تموز, 2009

 

Consciationalism and the Continuous Crisis in the Lebanese System

التوافقية والمأزق المستمر في النظام اللبناني

لـ كميل حبيب

تاريخ النشر: 01/11/2009

الناشر: دار الكتاب العزيز

النوع: ورقي غلاف عادي

لغة: إنكليزي

طبعة: 1

حجم: 24×17

عدد الصفحات: 420

يحتوي على: جداول، رسوم بيانية

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

7 + اثنان =

آخر الأخبار