طلب الكسب واجب على كل مسلم

 الأستاذ الدكتور مصطفى العبد الله الكفري

طلب الكسب واجب على كل مسلم

نشرت مجلة الاقتصاد الإسلامي العالمية في عددها الصادر بتاريخ 12/01/2014 مقالتي بعنوان:

 الرابط:  طلب الكسب واجب على كل مسلم

طلب الكسب واجب على كل مسلم

وفق تصنيف الإمام الفقيه محمد بن الحسن الشيباني

د. مصطفى العبد الله الكفري

12/01/2014

للكسب معانٍ واسعة تشمل كل جوانب الارتزاق في الحياة، فالكسب لا تتخلف عنه صورة جزئية أو كلية من موارد الرزق، كالتجارة، أو الصناعة، أو الإجارة، أو الهبة، أو البيع، أو الشراء، أو الاحتطاب، أو الاصطياد، أو ما أخرجته الأرض، أو أنبتته السماء، فهو كل مصدر ارتزاق أو انتفاع يقع للإنسان.

الأنبياء قدوتنا في الكسب الحلال:

لما هبط آدم عليه السلام إلى الأرض أتاه جبرائيل عليه السلام بالحنطة، وأمره أن يزرعها، فزرعها، وسقاها، وحصدها، ودرسها، وطحنها، وخبزها. فلما فرغ من هذه الأعمال حان وقت العصر أتاه جبرائيل عليه السلام وقال: إن ربك يقرئك السلام ويقول: إن صمت اليوم غفرت لك خطيئتك، وشفعتك في أولادك، فصام. وكان حريصاً على تناول ذلك الطعام لينظر، هل يجد من الطعم ما كان يجده لطعام الجنة؟ فمن ثمة حرص الصائمون بعد العصر على تناول الطعام. (الكسب للشيباني ص 35)

وكذا نوح عليه السلام كان نجاراً يأكل من كسبه، وإدريس عليه السلام كان خياطاً وإبراهيم عليه السلام كان بزازاً، روي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: عليكم بالبز فإن أباكم كان بزازاً. يعني إبراهيم الخليل عليه السلام. وداود عليه السلام كان يأكل من كسبه على ما روي أنه كان يخرج متنكراً، فيسأل أهل مملكته عن سيرته حتى استقبله جبرائيل عليه السلام يوماً على صورة شاب، فقال له داود عليه السلام: كيف تعرف داوود أيها الفتى؟ فقال: نعم العبد داوود إلا أن فيه خصلة، فقال: وما هي؟ قال: إنه يأكل من بيت المال، وإن خير الناس من يأكل من كسبه، فرجع داوود عليه السلام إلى محرابه باكياً متضرعاً يسأل الله تعالى ويقول: اللهم علمني كسباً تغنيني به عن بيت المال، فعلمه الله تعالى صنعة الدرع، ولين له الحديد حتى كان الحديد في يده كالعجين في يد غيره. قال الله تعالى {وعلمناه صنعة لبوس لكم} (الأنبياء: 80). فكان يصنع الدرع ويبيعه باثني عشر ألفاً، فكان يأكل من ذلك ويتصدق.

وسليمان صلوات الله عليه كان يصنع المكاتل من الخوص، فيأكل من ذلك. وزكريا عليه السلام كان نجاراً. وعيسى عليه السلام كان يأكل من غزل أمه، وربما كان يلتقط السنبلة فيأكل من ذلك وهو نوع اكتساب. (الكسب للشيباني ص36)

ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم كان يرعى في بعض الأوقات، على ما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه رضي الله عنهم يوماً: كنت راعياً لعقبة بن أبي معيط، وما بعث الله نبياً إلا استرعاه. وفي حديث السائب بن شريك عن أبيه رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم شريكي وكان خير شريك، لا يداري ولا يمار أي لا يلاج ولا يخاصم، قيل في ماذا كانت الشركة بينكما؟ فقال: في الأدم وازدرع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجرف، على ما ذكره محمد الشيباني رحمه الله في كتاب المزارعة، ليعلم أن الكسب عن طريق المرسلين عليهم السلام.

 الاشتغال بالكسب أفضل أم التفرغ للعبادة:

هل الاشتغال بالكسب أفضل أم التفرغ للعبادة؟ قال بعض الفقهاء: الاشتغال بالكسب أفضل، وأكثر مشايخنا أكدوا أن التفرغ للعبادة أفضل. وجه القول الأول: أن منفعة الاكتساب أعم، فإن ما اكتسبه الزارع تصل منفعته إلى الجماعة عادة. أما الذي يشتغل بالعبادة إنما ينفع نفسه لأنّه بفعله يتحصل النجاة لنفسه، ويحصل الثواب لجسمه، وما كان أعم نفعا فهو أفضل، لقوله صلى الله عليه وسلم: خير الناس من ينفع الناس، ولهذا كان الاشتغال بطلب العلم أفضل من التفرغ للعبادة، لأن منفعة ذلك أعم ،ولهذا كانت الإمارة والسلطنة بالعدل أفضل من التخلي للعبادة، كما اختاره الخلفاء الراشدون رضوان الله عليهم لأن ذلك أعم نفعاً.

وإلى هذا المعنى أشار النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: العبادة عشرة أجزاء، وقال صلى الله عليه وسلم: الجهاد عشرة أجزاء تسعة منها طلب الحلال، يعني طلب الحلال للإنفاق على العيال. والدليل عليه أنه بالكسب يتمكن من أداء أنواع الطاعات من الجهاد والحج والصدقة وبر الوالدين وصلة الرحم والإحسان إلى الأقارب والأجانب وفي التفرغ للعبادة لا يتمكن إلا من أداء بعض الأنواع كالصوم والصلاة. (الكسب للشيباني ص 48)

وما زاد على ما لا بد منه يحاسب المرء عليه، ولا يحاسب أحد على الفقر. فلا شك أن ما لا يحاسب المرء عليه يكون أفضل مما يحاسب المرء عليه. وأما من فضل الغنى احتج فقال: الغنى نعمة، والفقر بؤس ونقمة ومحنة، ولا يخفى على عاقل أن النعمة أفضل من النقمة والمحنة، والدليل عليه أن الله تعالى سمى المال فضلاً فقال عز وجل: {وابتغوا من فضل الله} (الجمعة: 10). وما هو فضل الله فهو أعلى الدرجات وسمى المال خيراً فقال عز وجل: {إن ترك خيراً الوصية للوالدين} (البقرة: 198). وهذا اللفظ يدل على أنه خير من ضده، وقال الله تعالى: {ولقد آتينا داود منا فضلاً} (سبأ: 10)، يعني الملك والمال، حتى روي أنه كان له مائة سرية فمن الله بذلك عليه، وسماه فضلاً منه. وسليمان صلوات الله عليه سأل الله تعالى ذلك فقال: {رب اغفر لي وهب لي ملكاً لا ينبغي لأحد من بعدي} (آل عمران: 35). ولا يظن بأحد من الرسل عليهم السلام أنه سأل الله الدرجة الأدنى دون الدرجة العليا. والدليل عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الأيدي ثلاثة: يد الله، ثم اليد المعطية، ثم اليد المعطاة فهي السفلى إلى يوم القيامة. (الكسب للشيباني ص 50)

يرتبط الكسب في الإسلام ارتباطاً وثيقاً بالأخلاق والعبادة، وارتباط الاقتصاد الإسلامي بالقيم الخلقية، والمبادئ الشرعية، ويظهر أثر الاقتصاد جلياً واضحاً في العبادات، كما أن الإنتاج وعناصر الإنتاج مرتبط بالعبادات، مع التأكيد على أهمية التخصص والتعاون المشروع في العلاقات الاقتصادية والاجتماعية، وربطه بالجانب العقدي والأخلاقي، وأثر ذلك كله في التنمية الاقتصادية، والاجتماعية، وتوزيع الثروات على فئات المجتمع بالعدل. ومسألة الإنفاق وما يجب فيها وعليها من الضوابط، وهي قضية باتت تؤرق الاقتصاديين اليوم، إن عدم الأخذ بالضوابط التي تتعلق بالإنفاق وسلوك المستهلك يمكن أن يؤدي إلى آثار اقتصادية سلبية: كالانكماش، والكساد، والبطالة، وتبديد مصادر الإنتاج.

الأستاذ الدكتور مصطفى العبد الله الكفري

كلية الاقتصاد – جامعة دمشق

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

15 + خمسة عشر =

آخر الأخبار