التنمية وقضايا السكان في الدول العربية
التنمية وقضايا السكان في الدول العربية
قضايا السكان والتنمية والعوامل المؤثرة فيها والنتائج المترتبة عنها اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا أمور لازالت تشغل حيزاً كبيراً من جهود المفكرين وعلماء الاقتصاد والاجتماع في العالم، وأضحى هذا الموضوع وما ينبثق عنه عنواناً للعديد من الكتب والندوات واللقاءات العلمية التي تجري لدى كل من البلدان الصناعية المتقدمة والبلدان النامية على السواء. وبرغم تباين وجهات النظر حول مسألة التنمية بين المدارس الفكرية المختلفة فإن هذه المسالة، وما استطاعت البلدان النامية تحقيقه في هذا المضمار خلال العقود الأخيرة، لا زالت تثير قلقاً فعلياً لدى شعوب هذه البلدان وأنظمتها السياسية في ظل التقسيم الدولي الجائر للعمل وطبيعة الظروف الاقتصادية السائدة في العالم. [1]
التنمية الشاملة في الدول العربية بين الطموح والصعوبات:
أهم مشكلات التنمية في الدول العربية ارتفاع معدل النمو السكاني، والنقص في الكوادر الوطنية، وانخفاض إنتاجية العمل، والتبعية وهيمنة قطاع النفط، والتطور غير المتوازن، والتفاوت في مستوى التطور، كذلك ضعف التراكم والادخار والاستثمار في البلدان العربية كما وخطط التنمية في الدول العربية بين التكامل والتناقض.
يتوفر للدول العربية المقومات اللازمة لتحقيق تنمية شاملة تعتمد على الذات، والتوجه نحو تحقيق تقدم تقني واقتصادي واجتماعي، والخروج من حالة التخلف التي يعيشها المواطن العربي. ولا بد من إعادة النظر في نمط التنمية السائد في الدول العربية مع الاستفادة من خبرة التجارب الماضية لخلق نمط جديد لتنمية يستهدف تحقيق غايات التنمية العربية وتحسين مستوى معيشة المواطن. ولا بد أن تكون التنمية الاقتصادية المنشودة عادلة اجتماعيا وداعمة للاستقلال السياسي ومؤكدة له وداعية لتحقيق الوحدة العربية. ولا يمكن للتنمية أن تولد إلا بعمل واع مدروس ومنسق لأجل السيطرة الاقتصادية والاجتماعية على الموارد المحلية وتسخيرها لخدمة التنمية.
(وينبغي لهذه السيطرة أن تكون قبل كل شيء، حصيلة إرادة وطنية فلا يمكن للتنمية أن تفرض من الخارج، أو تحقق بواسطته لأنها في الأساس تغيير عميق في العمل والوجود والتفكير. إن التعاون الدولي … يمكن أن يسهل مهمة حكومات العالم الثالث ولكنه لن يغنيها عن العمل، ومن خلالها هذا المنظور، فان كل بلد مدعو إلى أن يحتط طريقه بنفسه، لذا لسنا هنا بصدد إعطاء وصفات جاهزة للتنمية).
الدول العربية بين النماذج العالمية للتنمية والاعتماد على الذات:
يعد الدول العربية وحدة اقتصادية واحدة في إطار النماذج العالمية للتنمية والنموذج الصالح للتنمية هو النموذج الذي يراعي مصالح الشعوب واهتماماتها. واختيار الموذج المناسب من النماذج العالمية للتنمية كنموذج نادي روما، ونموذج ميزاروفيتش وبستل، ونموذج اوريليوبيتشي، نموذج أمريكا اللاتينية، نموذج ليونيتيف للاقتصاد العالمي، نموذج ساروم، أو النموذج الإسلامي للتنمية. وتحديد كيفية اختيار نموذج التنمية المناسب، وبخاصة موضوع التنمية المستقلة والاعتماد على الذات في الدول العربية.
ومادام النجاح في بناء النماذج، يتطلب التعرف إلى العوامل الأكثر تشكيلاً وحسماً لمستقبل التنمية، كما يتطلب الأمر، أن يكون النموذج تعبيراً صادقاً عن خصائص المجتمع محل التحليل والتنبوء، فقد كان من الضروري الاهتمام بالتعبير عن التغيرات الهيكلية المطلوبة في الدول النامية، اكثر من مجرد استخدام نموذج نمطي ينطبق على كل مناطق العالم، النامي والمتطور منها على حد سواء. فعلى سبيل المثال: التغيرات الهيكلية المطلوب التعبير عنها في نموذج لمناطق العالم الثالث، كان لا بد أن تهتم بتنمية الموارد البشرية، أي بتنظيم المعرفة المتراكمة، والمهارات وخلق الظروف للتعبئة والمشاركة في الحياة والإنتاج، وعلى وجه الخصوص في مجال الإبداع التكنولوجي المحلي. ويأتي دور النموذج هنا لاختيار مدى إمكانية مساهم هذه القوى البشرية، من خلال الافتراضات الخاصة بتعبئتها والاستفادة منهاــ في تحقيق أهداف مجتمعات البلدان النامية.
(عندما نقوم بدارسة ومعالجة الدول العربية، كوحدة واحدة، ضمن إطار النماذج العالمية للتنمية، من الضروري الانتباه لعدد من العوامل وأخذها بعين الاعتبار على الرغم من كل أنواع التناقضات والخلافات بين أقطار الدول العربية، فلقد كان الأكثر مناسبة لنشاط النماذج العالمية – في تقسيمه العالم إلى مناطق – تمييز منطقة عربية خالصه). من هذه العوامل:
1 ـ الحجم النسبي الجغرافي والسكاني والاقتصادي للدول العربية في العالم، حيث يمتلك الوطن العربي مساحة من الأراضي تشكل أكثر من عشر اليابسة، ويبلغ عدد سكان الدول العربية في عام (2008 م) حوالي (320) مليون نسمة، إضافة إلى ما يمتلكه الوطن العربي من مصادر الطاقة، حوالي 60 في المائة من احتياطي العالم من النفط، 13 في المائة من الغاز الطبيعي وطاقة شمسية بلا حدود، إضافة إلى المواد الأولية والموارد الطبيعية الأخرى.
2 – تعامل الجماعات الدولية ومعظم مؤسساتها مع الوطن العربي كوحدة إقليمية واحدة في أكثر من مناسبة وفي أكثر من مجال.
3 – عندما تقوم دراسة أي نموذج عالمي بتقسيم العالم إلى مناطق يكون من المنطقي اخذ التكامل في الموارد والتجانس في التاريخ والحضارة ووحدة اللغة والتواصل الجغرافي في الاعتبار.
والدول العربية يجمعها أكثر من التاريخ واللغة والثقافة، والتكامل بين الموارد المالية والطبيعية والبشرية.
4 – للوطن العربي تجانساً ثقافياً مميزاً، مدعوماً بوعي سياسي، الشيء الذي لا يضاهي بأي منطقة أخرى في العالم الثالث، لذلك فانه إذا تجسدت آفاق للتعاون الإقليمي، يغدو (العالم العربي) عنصراً أساسياً في تشكيل مستقبل العالم.
العلاقات المتبادلة بين متغيرات النمو السكاني ومؤشرات النمو الاقتصادي في الوطن العربي: لموضوع العلاقات المتبادلة بين التنمية الاقتصادية من حيث مظاهرها ونتائجها من جهة، وبين العوامل الديمغرافية التي تتأثر بها وتؤثر فيها من جهة أخرى. أي المتغيرات الاقتصادية في المنطقة العربية والمتغيرات السكانية، ولجوانب العلاقة المتبادلة فيما بينها، أثار انعكاس الوضع الاقتصادي العربي على المتغيرات السكانية، وخاصة مشكلة التوزع السكاني والكثافة السكانية في الدول العربية وتوزع السكان بين الحضر والريف وكذلك مشكلة الإعالة.
ركزت برامج التطور والتنمية في المنطقة العربية بشكل أساسي على الجوانب الاقتصادية لهذه العملية، وأهملت وإلى حد بعيد العامل السكاني من حيث دوره وتأثيره وكذلك مقدار تأثره بالنتائج الاقتصادية المحققة سلباً أو إيجاباً. الخطط الإنمائية للدول العربية تتصف كما هو معروف بكونها برامج استثمارية بالدرجة الأولى وتتضمن مجموعات من المشروعات الموزعة على عدد من الأنشطة السلعية والخدمية، تهدف في النهاية إلى رفع معدلات النمو الاقتصادي وتحقيق زيادات في الإنتاج وأحياناً تطوير القاعدة الإنتاجية مع ما يستلزم ذلك من تامين لمتطلبات هذه البرامج من موارد مالية ومادية وبشرية من مصادر محلية وأجنبية. وقد أدى هذا التركيز على الجوانب الاقتصادية إلى إهمال الجانب السكاني. وقد تمثل على سبيل المثال، في تأخر العديد من خطط التنمية العربية بإدخال خطة القوى العاملة كجزء أساسي في خطة التنمية.
إن دراسة العلاقات المتبادلة بين الظواهر السكانية والظواهر الاقتصادية في عملية التنمية، يستطيع أن يسهم برأينا في تسليط الضوء على العامل السكاني وأهميته في عملية التنمية، كما يكشف بشكل مسبق ما يمكن أن يترتب عن حركة التنمية من تفاعلات وانعكاسات متبادلة بين المتغيرات الاقتصادية والسكانية. ومثل ذلك يمهد بشكل صحيح لوضع سياسة اقتصادية وسكانية ملائمة، ولإدخال العوامل الديمغرافية بصورة ملائمة في برامج التنمية الاقتصادية والاجتماعية للبلاد.
تطور التغييرات الأساسية للنمو الاقتصادي في الدول العربية وأثره على انتقال العمالة داخل المنطقة العربية: لا بد من تحديد الملامح الأساسية لتطور الاقتصاد العربي وأثره على انتقال العمالة داخل الدول العربية خلال السبعينات والثمانينات من القرن العشرين وحتى الآن، هذه الحقبة التي حدثت فيها الطفرة النفطية وانعكاساتها على الأوضاع الاقتصادية العربية وحجم الهجرة داخل حدود الوطن العربي (الهجرة إلى النفط). وما أهم نتائج هجرة العمالة العربية إلى الدول الغنية بالنفط، وبخاصة الآثار الاقتصادية والآثار الاجتماعية، كما تعرض إلى مرحلة تراجع الطفرة النفطية وانعكاساتها على الأوضاع الاقتصادية وحدوث الهجرة المعاكسة.
توزع القوى العاملة في الوطن العربي وارتباطها بعملية التنمية:
هدف التنمية الأول هو الإنسان، كما انه يعتبر عمادها الأساسي فكل نشاط اقتصادي يجب أن يوجه نحو تحسين مستوى الإنسان المعيشي (الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والصحي …)، لذلك يجب التركيز على قوة العمل كأحد عوامل الإنتاج والتي بدونها لا يمكن أن يتحقق الإنتاج المادي وتتأخر عملية التنمية فالإنسان إذن هو صانع التنمية وموضوعها وغايتها.
أصبح التأثير السلبي لارتفاع معدل نمو السكان وزيادة عدد الولادات في الدول العربية على التنمية واضحا تماما. والتأثير الموجب على عملية التنمية الاقتصادية فهو مؤجل على الأقل لحين تحول هذه الولادات إلى قوة عمل فاعلة في الاقتصاد الوطني. وهذا يبين لنا الأثر الحاسم للتنمية الشاملة في نسبة المواليد وعدد الوفيات، أو في تراوح عدد السكان الداخلي والهجرة. لقد آن الأوان للتخلص من تلك الفكرة المفرطة في التبسيط القائلة: بان السياسة السكانية وحدها قد تكفي لحل مشكلة تنمية العالم الثالث. لقد اخذ الناس يتفقون أكثر فأكثر على إقرار معني العلاقات بين مختلف العوامل وتعقيدها وعلى خطورة المشكلات التي تثيرها المعدلات المرتفعة للنمو السكاني.
من المهم تحديد حجم القوى العاملة العربية ونوعيتها، وكذلك توزيع القوى العاملة العربية من حيث توزيع موارد القوى العاملة بين مختلف القطاعات، أو توزعها حسب فئات الأعمار والحالة التعليمية، أو حسب الحالة العملية والمهنية. وموضوع القطاع غير المنظم والبطالة والعمالة الناقصة في الدول العربية.
يعد تطور القوة العاملة من حيث عددها وبنيتها أحد أهم مقاييس التطور الاقتصادي والاجتماعي لأي بلد من البلدان. فازدياد أعداد السكان الداخلين في قوة العمل يتأثر من جهة بمعدلات النمو السكانية ومن جهة أخرى بتوسع وتطور العملية الإنتاجية ذاتها. كما أن نمو القوة العاملة وتطور مستواها المهني والفني يشكل أهم العوامل الملبية لحاجات قطاعات الاقتصاد الوطني لعنصر العمل، كما يشكل دعامة هامة لتحقيق التطور المضطرد للاقتصاد الوطني وللمجتمع بشكل عام.
الأمن الغذائي في الدول العربية:
ما العلاقة بين المظاهر العامة التي تتصف بها اقتصاديات الدول العربية، ورصد الوضع الغذائي للسكان في الدول العربية (استهلاك الغذاء) من جهة. وبين تزايد عدد السكان وتزايد احتياجاتهم من الغذاء، وإنتاج الغذاء في الدول العربية، وعدم التوازن بين إنتاج واستهلاك الغذاء وبالتالي تزايد العجز الغذائي في الدول العربية. إن حل مشكلة الغذاء وتحقيق الأمن الغذائي العربي يتم من خلال العمل العربي المشترك والتنسيق والتكامل الاقتصادي العربي.
وتبدو أزمة الغذاء واضحة في الدول العربية من خلال المؤشرات التالية:
1 ــ انخفاض ما يخص الفرد من سعرات حرارية في معظم الأقطار العربية دون المستوى العالمي. وتجدر الإشارة إلى تفاوت كمية السعرات التي يحصل عليها السكان من دولة لدولة أخرى.
2 ــ اتساع الهوة بين واردات وصادرات الدول العربية من السلع والمنتجات الغذائية وتزايد اعتماد الأقطار العربية على الاستيراد لتامين ما تحتاج إليه.
3 ــ تدني نسبة الاكتفاء الذاتي ومستوياته، نتيجة لتزايد الواردات الغذائية من خارج الوطن العربي. وتختلف نسبة الاكتفاء الذاتي بين قطر وآخر.
إن وفرة السلع والمنتجات الغذائية في معظم الأسواق العربية، وإقبال الناس على شرائها أو عدم قدرتها على الشراء، لا ينفي وجود الأزمة الغذائية، والتي تكمن في الاعتماد على الاستيراد لتوفير السلع والمنتجات. إن خطورة الأزمة الغذائية في الدول العربية تكمن في الاعتماد المتزايد على الاستيراد لتأمين حاجة السكان من المواد الغذائية، حيث لا يستطيع المستورد التحكم في أسعار المواد المستوردة.
(منذ أوائل السبعينات أصبحت مشكلة الغذاء على راس قائمة الموضوعات والمشاكل التي تعاني منها الدول النامية بصورة عامة، والأقطار العربية بصورة خاصة، كما آخذت هذه المسالة تحتل مكانا بارزا في السياسات الاقتصادية للدول المتقدمة. وتوجه الهيئات الدولية والإقليمية جزءا كبيرا من جهودها لبحث تلك المشكلة وتقديم المقترحات والحلول بشأنها ورغم هذا الاهتمام الكبير فان الإنجازات الحقيقية في هذا الشأن على الصعيد الدولي تعد متواضعة إلى حد كبير خاصة إذا ما قيست بحجم المشكلة وأبعادها المستقبلية انه لمن المفيد إنذار الدول النامية والأقطار العربية وتحديد حجم المخاطر التي تواجهها في مجال الأمن الغذائي).
تتطلب الظروف التي يمر بها وطننا العربي قيام تنمية عربية جماعية تتكامل مع جهود التنمية القطرية، وبخاصة عندما تواجه التنمية القطرية مشكلات هامة مثل نقص الإمكانات وضيق السوق والوضع التنافسي غير المتكافئ والأقل قوة تجاه الأسواق العالمية. كما تتطلب استغلال الموارد العربية المتاحة على اختلاف أنواعها ومواقعها وهو مالا يتوفر إلا جزئيا” في التنمية القطرية. وكذلك لابد من توطين قاعدة علمية تقنية عربية تهدف إلى تعظيم الإنتاج وتحقيق أكبر قدر ممكن من الاكتفاء الذاتي الاعتماد على الذات.
التنمية والسكان، مشكلتان حديثتان متلازمتان. فعجز الدول العربية عن جعل الإنتاج يزداد، بنسبة أعلى من نسبة تزايد السكان، تطرح علينا اليوم مشكلة ثالثة قد تكون الأخطر في المستقبل المنظور، مشكلة صارت بادية للعيان منذ حوالي ربع قرن. هي الأمن الغذائي. فعلام نستورد القسم الأعظم من غذائنا وقد كانت أوروبا، لسنوات قليلة خلت تشتري منا حاجاتها من الخضروات والفواكه والقمح وغير ذلك؟ فما الذي جعل الموازين تنقلب لصالحهم وعلينا الوزر؟ أهو التقصير في القوة العاملة، أم في رؤوس الأموال، أم في المختصين؟ .. هذه الأسئلة تشير إلى مشكلات حقيقية يجب أن تدرس أولاً في كل دولة عربية على حده، ومن ثم يخطط لها على المستويين القطري والعربي.
الدكتور مصطفى العبد الله الكفري
كلية الاقتصاد – جامعة دمشق
[1] – الدكتور مصطفى العبد الله الكفري والدكتور عصام خوري، قضايا حول السكان والتنمية في الوطن العربي، منشورات وزارة الثقافة، في الجمهورية العربية السورية، دمشق 1993، ص5.