الفكر الاقتصادي الرأسمالي والفكر الاقتصادي العربي
الأستاذ الدكتور مصطفى العبد الله الكفري
الفكر الاقتصادي الرأسمالي والفكر الاقتصادي العربي
الأستاذ الدكتور مصطفى العبد الله الكفري
سادت مجتمعات الدول الغربية في بداية القرن الماضي التطبيقات الاقتصادية لأفكار النظرية الكلاسيكية لأدم سمث، وتتلخص أفكار هذه النظرية بان عملية التوازن بين قوى السوق ( العرض والطلب ) تحصل بصورة عفوية ( اتوماتيكية ) من خلال اليد الخفية التي تعمل داخل السوق، وطالبت النظرية عدم تدخل الدولة في النشاط الاقتصادي لإيجاد التوازن، لان تدخلها يؤدي إلى عرقلة وإرباك عمل تلك الآليات وفقدان دورها المناسب في تفعيل الأنشطة وإيجاد التوازن المطلوب . وعندما حصلت الأزمة المالية عام 1929 والكساد العالمي الذي أعقبه في ثلاثينيات القرن المنصرم ، لم تتمكن يد السوق الخفية من إعادة التوازن للأسواق بفعل قوى السوق ولم تتمكن من معالجة تأثيرات ظاهرة التضخم والانكماش على الأنشطة الاقتصادية، وعندما تعاظمت الأزمة واستفحل أمرها لم ينفع تدخل الدولة التي اضطرت لاحقا للتدخل من إعادة التوازن المطلوب، وحصل في حينه حالة كساد كبرى وتعطلت عجلة الإنتاج في كافة الأنشطة الاقتصادية والمالية وانتشرت البطالة بشكل واسع . استناداً لذلك حصل انقلاب على أفكار النظرية الكلاسيكية وحلت بدلاً عنها النظرية الكينزية التي طالبت بتدخل الحكومة بقوة لتحقيق التوازن في السوق، وحددت عدد من الآليات التي تستطيع بموجبها تحقيق التوازن المطلوب أهم تلك الآليات هو زيادة الإنفاق الحكومي العام لسد النقص في إنفاق القطاع الخاص ، بما يؤدي إلى دفع الطلب الكلي إلى الأعلى وما يتبعه من خلق طلب يؤدي إلى تنشيط الإنتاج وتشغيل عجلة الاقتصاد والقضاء على حالة الكساد والبطالة .
وثيقة إجماع واشنطن والتجليات العولمية:
يقوم الفكر الاقتصادي الرأسمالي المعاصر على مجموعة من الضوابط والتجليات العولمية النيوليبرالية مستنداً إلى وثيقة إجماع واشنطن التي صدرت سنة 1989، وتشتمل الوثيقة على عشر وصايا اقتصادية أهمها: الخصخصة، تخفيض الضرائب على الأثرياء، تحرير التجارة الدولية، حرية انتقال رؤوس الأموال، تخفيض الإجراءات والقيود الحكومية على عمل الأسواق والانضباط المالي خصوصا تخفيض عجوزات الخزينة، ويمكن اختصار هذه الوثيقة بثالوث، (ثبت ـ خصخص ـ حرر).
وتعد وثيقة إجماع واشنطن حركة تصحيحية كبرى جديدة ضد النظرية النيوكلاسيكية القائمة على آلية التصحيح الذاتية للسوق التي لم تعد صالحة، منذ الأزمة الاقتصادية العالمية وانهيار الأسواق في عام 1929 عندما أفلست المصارف وعم الكساد والبطالة وجاءت نظرية كينز لتسد الثغرة في النظرية الاقتصادية الحديثة ثم جاءت النظرية النقدية لـ ميلتون فيردمان لتعالج ظاهرة (الركود التضخمي) التي تمثلت في تلازم الركود الاقتصادي مع تضخم الأسعار وكانت أسوأ حالات الركود التضخمي الذي واجهته الدول الصناعية الكبرى الارتفاع الكبير في أسعار النفط الخام أوائل السبعينيات 1973 – 1974.
ظلت وثيقة واشنطن خلال الفترة 1989– 2008 تمثل النسق الفكري الاقتصادي في الولايات المتحدة الأميركية والدول الرأسمالية، حيث سيطر ما يسمى بالأصولية في اقتصاد السوق. ويعود سبب الانحراف الحاصل في الأنشطة الاقتصادية للدول الرأسمالية التي اعتمدت الأصولية في اقتصاد السوق لعوامل عديدة أهمها:
- ظروف وتطور النشاط الاقتصاد العالمي،
- تزايد نشاط المضاربات العقارية والمالية،
- عدم شفافية ووضوح البيانات وبخاصة المالية،
- تطور مسارات العولمة.
إعلان براغ محاولة لتصحيح مسارات العولمة:
وفي محاولة لتصحيح مسارات العولمة وتجاوز الأخطاء المتراكمة في الممارسات الليبرالية لتوسع التوحش الرأسمالي، نشأت تجمعات دولية كان أبرزها منتدى 2000 ضم صفوة كبار الاقتصاديين والمفكرين من مختلف إنحاء العالم، انتهت أعماله بإصدار ( إعلان براغ ) الذي يتضمن العديد من المبادئ تهدف إلى تصحيح مسيرة العولمة وترشيدها باعتبارها عملية تاريخية كبرى ينبغي أن تشارك فيها كل الشعوب. وقد ابرز إعلان براغ أربع مشكلات رئيسة:
أولها: صياغة مجموعة قيم أخلاقية تمثل الحد الأدنى الذي تلتزم به الحكومات والشعوب واهم قيمة رئيسة في هذا الصدد هي ضرورة معاملة كل كائن بطريقة إنسانية بحيث تمثل هذه القاعدة الذهبية التي تحكم العلاقات بين الأفراد والمجتمعات الإنسانية.
ثانيا: وقف تدهور البيئة الطبيعية ووضع حد للانقراض المفجع للأنواع والثقافات.
ثالثا: تحويل الموارد من شراء الأسلحة وتجارة المخدرات ومن الاستهلاك المادي والترفي المسرف إلى مصارف لمكافحة الفقر والمرض ومنع الصراعات العنيفة وحل مشكلات ارتفاع الحرارة الكوني ومواجهة الكوارث الطبيعية.
رابعا: ضرورة تحقيق الديمقراطية على النطاق العالمي، ومن هنا تأتي أهمية حماية التعددية في صور الحكم والمشاركة السياسية، والاتفاق على معايير عالمية لاحترام الحقوق المدنية.
تحول المفاهيم الليبرالية والفكر الاقتصادي الرأسمالي كل شيء، حتى الإنسان، إلى بضاعة فهي تسعى إلى تفكيك التجمعات التقليدية وأشكال التضامن القائمة، وتقضي على الروابط البشرية، فتحول مجموع الناس إلى فرق صغيرة معزولة، إنها قطيعة سياسية وثقافية قاسية تُخضع المواطنين لحكم واحد، وتدعوهم للاستسلام لقوانين السوق الخفية، وتدعو الشعوب والدول إلى الالتحاق بالاقتصاد العالمي والخضوع لإرادة الشركات متعدية الجنسيات والمؤسسات الدولية.
العلاقة بين الفكر الاقتصادي والسياسات الاقتصادية:
تبدو العلاقة بين الفكر الاقتصادي والسياسات الاقتصادية علاقة مباشرة وغير مباشرة حيث يتم وضع السياسات الاقتصادية بوحي من الفكر الاقتصادي، لكنها (السياسات) غير قادرة على الإحاطة بكل جوانب الفكر الاقتصادي، كما أن للفكر الاقتصادي جوانب وأبعاد متعددة (سياسية واجتماعية إلى جانب الاقتصادية)، فإذا كان النشاط الاقتصادي يهدف إلى خلق المنتجات لتأمين الحاجات الضرورية للفرد والمجتمع، فإن الفكر الاقتصادي يخلق الشروط المهيئة لتقرير مصير الفرد واستقلاليته ودفعه للإبداع والابتكار عبر تحرير طاقاته الكامنة.
يجب أن لا تطرح مسألة العلاقة بين الفكر الاقتصادي والسياسات الاقتصادية من خلال مفاهيم تقنية مثل (الإنتاج، الاستهلاك، الاستثمار، الادخار، العمل، البطالة، الفقر، الضمان الاجتماعي، التعليم، الصحة، تمكين المرأة… وغيرها) فقط، إنما يكون الطرح من خلال التغيير الاجتماعي الذي يسهم به الفكر الاقتصادي نفسه عبر وضع النظريات وتقديم الحلول المثلى، وإذا كان الفكر الاقتصادي يتجلى، جزئياً، في السياسات الاقتصادية، إلا أنها لا تمثله تماماً ولا تعبر عن كل مضامينه، ويمكن القول أن السياسات الاقتصادية تعد أحد أشكال تجلي الفكر الاقتصادي.
الفكر الاقتصادي العربي جزء من الفكر الاقتصادي العالمي:
يعد الفكر الاقتصادي العربي جزء من الفكر الاقتصادي العالمي وبتأثر به ويؤثر فيه أحياناً، ومع أن الفكر الاقتصادي العربي مازال في مرحلة التكون، إلا أنه يظل متأثراً بالفكر الاقتصادي الرأسمالي والفكر الاقتصادي الاشتراكي. هل يؤثر الفكر الاقتصادي العربي بالتطورات الجارية في الدول العربية أو ما يسمى (الربيع العربي)؟ أم أن التطورات الجارية في الدول العربية ستؤثر على الفكر الاقتصادي العربي؟
ما هو مستقبل الفكر الاقتصادي العربي؟
ما هو النظام الاقتصادي المناسب للدول العربية؟
وهل يستطيع الفكر الاقتصادي العربي تجاوز فكر سقوط النظام الرأسمالي أو النظام الاشتراكي؟
أي النظامين الاقتصاديين يناسب الدول العربية أكثر الرأسمالي أم الاشتراكي؟ أم نظام ثالث؟
مع اختلاف الأنظمة الاقتصادية العربية هل الفكر الاقتصادي العربي موحد؟
في ظل التحولات العربية الجارية نلاحظ ما يلي: تبدو الغلبة لقوى السوق العاتية على المجتمع. وتبدو الغلبة للعالمي على القومي (الوطني). كما تبدو الغلبة للشركات العملاقة متعدية الجنسية على الدولة. تتعالى أصوات المهمشين في الدول العربية تطالب بالحرية والعدالة والإنصاف. اتساع حركات الممانعة في الدول العربية.
ويلاحظ تراجعاً أكاديمياً في الدراسات الاقتصادية النظرية (حول الفكر الاقتصادي، الاقتصاد السياسي، المذاهب الاقتصادية) في الدول العربية، فقد انصب الاهتمام في الجامعات والمؤسسات الأكاديمية على التدريس وتخريج الطلبة وفق متطلبات (سوق العمل). لذلك لا بد من إعادة الاعتبار لتدريس علم الاقتصاد والاقتصاد السياسي والمذاهب الاقتصادية في الجامعات والمؤسسات الأكاديمية الاقتصادية في الدول العربية، وذلك بهدف إحياء الحراك الفكري الاقتصادي مع تشجيع حلقات البحث ودوائر الحوار ومراكز البحوث بما يوفر سيادة الأجواء العلمية والموضوعية لبناء فكر اقتصادي عربي متطور.
يظل تأثر أو تأثير الفكر الاقتصادي العربي بالتطورات الجارية في البلدان العربية رهناً بما تحققه هذه التطورات من إنجازات ومفاهيم جديدة بدأت تظهر ولكنها لا زالت في طور التكوين.
الأستاذ الدكتور مصطفى العبد الله الكفري
كلية الاقتصاد – جامعة دمشق