
جوهر علم الاقتصاد والنشاط الاقتصادي
الأستاذ الدكتور مصطفى العبد الله الكفري
أولاً – جوهر علم الاقتصاد:
ينتمي علم الاقتصاد إلى مجموعة العلوم الاجتماعية. ويحلل ويناقش الجانب الاقتصادي من النشاط الإنساني في أي مجتمع من المجتمعات، أي النشاط الاقتصادي، علميات إنتاج وتبادل وتوزيع واستهلاك الخيرات والموارد في المجتمع، كما يناقش علم الاقتصاد عدداً كبيراً من المتغيرات الاقتصادية كالاستثمار والمصارف والنقود والأسعار والتكاليف والأرباح والأنظمة الاقتصادية والسياسات، إضافة إلى النظرية الاقتصادية، والأعمال المختلفة للمنظمة الاقتصادية. كما يعالج أيضا مسألة النمو الاقتصادي والبيئة، وقوانين العمل ومسائل العمال، والأسواق والتجارة بنوعيها الداخلية والخارجية ومختلف الظواهر الاقتصادية.[1]
ويعد علم الاقتصاد في جوهره علماً تجريبياً، يتمثل هدفه الأول في شرح (وتفسير) النشاط الاقتصادي والظواهر الاقتصادية من حولنا، ثم مساعدتنا على وضع سياسات اقتصادية مرتكزة على مبادئ اقتصادية قويمة تؤدي إلى تحسين مستوى معيشة الأفراد.
قد يبدو أن الازدهار أو الرخاء الاقتصادي سيؤدي إلى تضاؤل الاهتمام بالشأن الاقتصادي، لكن التجربة والحقائق أظهرت أن العكس هو الصحيح. وبدا أن تفهم الحقائق الثابتة لعلم الاقتصاد أمراً أكثر أهمية من ذي قبل فيما يتعلق بشؤون الأفراد والدول. وشهدت بعض الدول نمواً بطيئاً في تحسين مستويات المعيشة، إضافة إلى معاناتها من عجز ضخم في ميزانيتها الحكومية، ومع حلول النصف الثاني من القرن العشرين وبداية القرن الواحد والعشرين تحول العجز إلى فائض، وارتفعت معدلات نمو الإنتاجية وازدادت الأجور الحقيقية.
كما تزايدت الروابط الاقتصادية العالمية نتيجة تطور أجهزة الكمبيوتر والاتصالات في سوق عالمية تنافسية غير مسبوقة. وبدأ الاهتمام المتزايد بشأن المشكلات البيئية الدولية والحاجة إلى إبرام اتفاقيات تهدف إلى الحفاظ على الثروات الطبيعية الثمينة. وتعد هذه التغيرات المذهلة كافة جزءاً لا يتجزأ من القضايا التي يهتم بها علم الاقتصاد.
[1] ـ انظر، الموسوعة البريطانية Britannica encyclopedia 1994 – 1999.
ثانياً – النشاط الاقتصادي:
يوضح لنا مفهوم النشاط الاقتصادي العلامة ابن خلدون في مقدمته الشهيرة كما يأتي: (لو فرضنا منه – أي الفرد – أقل ما يمكن فرضه وهو قوت يوم من الحنطة مثلاً فلا يحصل عليه إلا بعلاج كثير من الطحن والعجن والطبخ وكل واحد من هذه الأعمال الثلاثة يحتاج إلى مواعين وآلات لا تتم إلا بصناعات متعددة من حداد ونجار وفاخوري، وهب أنه يأكله حباً من غير علاج فهو أيضاً يحتاج في تحصيله حباً إلى أعمال أخرى أكثر من هذه الزراعة والحصاد والدراس الذي يخرج الحب من غلاف السنبل ويحتاج كل واحد من هذه إلى آلات متعددة وصنائع كثيرة أكثر من الأولى بكثير). ([1])
لذلك نلاحظ أن قدرة الفرد الواحد على تأمين حاجاته من الغذاء والملبس والمأوى غير كافية، فلا بد من اجتماع الأفراد وتعاونهم فيحصلون بالتعاون على قدر الكفاية من الحاجة لأكثر منهم بأضعاف، لذلك تبدو هنا ضرورة التعاون بين البشر لتحقيق مصالح الأفراد والمجتمع وتقديم الخدمات بأيسر السبل وأفضل الشروط. ([2])
يتم توضيح النشاط الاقتصادي في المجتمع بالعودة إلى الرحلة اليومية القصيرة التي يمر بها الفرد منذ الاستيقاظ في الصباح إلى أن يصل إلى مكان عمله. فلا بد للفرد من إعداد نفسه للخروج وهو يحتاج بذلك إلى العديد من المنتجات السلع والمواد التي يستخدمها في طعامه أو في الاغتسال وارتداء الملابس. ولتناول الطعام يستعمل أدوات لتجهيزه ويستعمل أدوات أخرى لتناوله. ومصدر هذه المواد إما زراعي وإما صناعي تم تحويله. وفي الطريق إلى مكان عمله يستخدم إحدى وسائط النقل. وعندما يصل إلى مكان عمله يجده قائماً ومجهزاً بما هو لازم لممارسة نشاطه اليومي. خلال هذه الرحلة القصيرة نسبياً نجد أن الفرد قد استعمل أو استهلك الكثير من المنتجات السلع والأدوات التي تم إنتاجها لتأمين حاجته.
ابتداء من هذه الرحلة الصباحية اليومية يمكن تتتبع رحلات أفراد آخرين ومجموعات أخرى من الأفراد، قاموا بالعمل وبذلوا الجهد في إنتاج السلع والخدمات التي يحتاج إليها الإنسان في رحلته اليومية. والهدف من النشاط الاقتصادي هو إنتاج الخيرات لتلبية حاجة الإنسان من الغذاء والكساء والمأوى، لأن قدرة الفرد وحده قاصرة عن تأمين تلك الحاجات بمفرده.
أفضل تمثيل للنشاط الاقتصادي هو عمل خلية نحل الهائل والمعقد بما يشتمل عليه من نشاط لا ينتهي. فهناك أفراد يبيعون ويشترون، وآخرون يساومون ويستثمرون ويجادلون ويهددون. أما الهدف النهائي من وراء علم الاقتصاد (بل وهدف هذا الكتاب)، هو الوصول إلى فهم صحيح لما ينطوي عليه هذا النشاط من تعقيد. والسؤال الذي يطرح نفسه الآن هو: كيف يقوم الاقتصاديون بأداء عملهم؟
ولا يتم النشاط الاقتصادي في المجتمع بمعزل عن النشاطات الاجتماعية والسياسية، بل هو مرتبط بكافة جوانب الحياة الأخرى. فالفلاح الذي يمارس نشاطاً اقتصادياً (ينتج القمح)، هو الفرد ذاته الذي يمارس نشاطاً اجتماعياً داخل أسرته، أو من خلال علاقته بجيرانه والأسر الأخرى في المجتمع، وهو الفرد نفسه الذي ينتمي إلى حزب سياسي ويمارس نشاطاً سياسياً في المجتمع، وقد يكون هو الفرد نفسه الذي يمارس نشاطاً فنياً عندما ينتسب إلى إحدى الفرق كهاوٍ للتمثيل مثلاً. لذلك يكون الفرد في انتمائه إلى فئة أو طبقة اجتماعية، هو نفسه الذي يمارس عملياً النشاط الاقتصادي والنشاط الاجتماعي والنشاط السياسي في هذه الفئة أو الطبقة.
الأستاذ الدكتور مصطفى العبد الله الكفري
كلية الاقتصاد – جامعة دمشق
[1]– تاريخ ابن خلدون “مقدمة ابن خلدون” المجلد الأول –دار البيان- ص43.
[2] – انظر، د. مصطفى العبد الله، علم الاقتصاد والمذاهب الاقتصادية، منشورات جامعة دمشق، 1993. مقرر لطلاب السنة الأولى في كلية الشريعة – جامعة دمشق. أنظر أيضاً، مقالة للمؤلف بعنوان: حاجات الإنسان وطرق إشباعها، مجلة أخبار البترول والصناعة، العدد 192، أبو ظبي، يوليو –حزيران 1986.