ابن خلدون الصائغ الأول لقانوني القيمة وفائض القيمة 1-5
حسين علوان حسين، 2021 / 2 / 16
ابن خلدون الصائغ الأول لقانوني القيمة وفائض القيمة 1-5
حسين علوان حسين، 2021 / 2 / 16
من المعلوم للمطلعين على الأدبيات الماركسية أن قانون فائض القيمة يمثل حجر الزاوية في الكشف عن الطبيعة الاستغلالية للنظام الرأسمالي المُنْبَني أولاً وآخراً على سرقة الطبقة البرجوازية – المحتكرة لوسائل الانتاج الاجتماعية لنفسها – لقوة عمل البروليتاريا عبر تشغيلها لساعات عمل اضافية مستمرة ومتجددة غير مدفوعة الأجر تصب أقيامها التبادلية في جيوب الرأسماليين ظلما وعدواناً. كل رأسمال العالم ليس هو سوى فائض القيمة المتراكم والمتجدد المسروق من أفواه وجيوب خالقيه البروليتاريين، ومن هنا تتأتى شرعية وضرورة الثورة الاشتراكية للقضاء على الاستعباد الرأسمالي للعالم عبر تشريك وسائل الانتاج الاجتماعي.
ولكن لماذا يفضي تشريك وسائل الانتاج الاجتماعي في النهاية إلى إلغاء النظام الرأسمالي برمته تدريجياً؟ لأن من شأن هذا التشريك أن يُلغي الامتياز الذي يمنحه البرجوازي لنفسه باحتكاره لوسائل الانتاج في النظام الرأسمالي، وهو ما يُلغي بدوره امكانية استغلاله للعمل المأجور مجاناً لجيبه الخاص عبر انتاج فائض القيمة – المصدر الأوحد لخلق رأس المال، ويُلغي تبعاً لذلك اشتغال قانون فائض القيمة عند التوصل لتحقيق نمط الانتاج والتوزيع القائم على قاعدة: “من كل حسب عمله ولكل حسب حاجته” في الطور الشيوعي الأعلى. في ظل هذا النمط من الانتاج الشيوعي المنشود ينتفي شكل العمل المأجور، مثلما يُلغى وجود السوق الرأسمالي للسلع والخدمات وبالتالي يُلغى أيضاً في النهاية اشتغال حتى قانون القيمة الرأسمالي بشكله كقيمة قوة عمل بوساطة السوق – باعتبار أن العمل البشري النافع هو وحده خالق القيمة التي يحدد قيمتها التبادلية العمل البشري الضروري لإنتاجها – وهو القانون الذي يحدد، بشكل عام، بُنى الكُلَف وبُنى الأسعار للمنتجات المادية وغير المادية في النظام الرأسمالي الحالي.
ولكن ما الذي تقوله لنا المدونات والمصادر التاريخية عن أول صياغة علمية لقانون القيمة ولقانون فائض القيمة؟ قبل الإجابة على هذا السؤال المهم ينبغي تدبر الاجابة على هذا السؤال الجوهري: ما هي علاقة القانون الأول بالثاني؟
لا يمكن لأي عالم اقتصاد اكتشاف قانون فائض القيمة مالم يعي بدقة علمية تجليات أوجه قانون القيمة نفسه القائل بكون العمل البشري النافع هو وحده خالق القيمة. لدينا هنا وجهان متلازمان للقيمة مثل تلازم صفحتي الورقة الواحدة: المنفعة، أي القيمة الاستعمالية للسلعة المادية أو غير المادية – وهذا هو الأساس في نشوء كل سلعة؛ ثم لدينا قيمتها، أي قيمتها التبادلية في السوق التي تتناسب عموما مع متوسط وقت العمل الاجتماعي المتبلور في انتاجها. في بؤس الفلسفة (1847) يقول ماركس: “تتناسب القيم التبادلية النسبية للمنتجات في التجارة – التي يُعبَّر عنها عادةً بأسعار النقود – مع متوسط مقادير وقت العمل البشري الضروري اجتماعيًا لإنتاجها حاليًا.”
ما دامت القيمة التبادلية للسلعة تتناسب مع متوسط العمل البشري الضروري اجتماعياً لإنتاجها، فمن أين يحصل الرأسمالي الذي لا يعمل على قيم رؤوس أمواله من بيع منتجات العمل البشري لعماله؟ الجواب من تشغيله لعماله اوقاتاً اضافية بدون عوض لحسابه يومياً.
أعود للسؤال الأول: من هو أول من صاغ علمياً قانون القيمة ولقانون فائض القيمة؟
الجواب: انه عبد الرحمن بن محمد ابن خَلدون أبو زيد ولي الدين الحضرمي الإشبيلي (1332 – 1406م)، المولود في تونس والمتوفى في مصر. وهو الذي قال عنه لينين: ” ترى أليس في الشرق آخرون من أمثال هذا الفيلسوف؟ ” كما قال فيه مكسيم غوركي في رسالة له بعث بها إلى المفكر الروسي أنوتشين بتاريخ 21 أيلول، 1912: ” إنك تنبؤنا بأن ابن خلدون في القرن الرابع عشر كان أول من اكتشف دور العوامل الاقتصادية وعلاقات الإنتاج. إن هذا النبأ قد أحدث وقعاً مثيراً، وقد اهتم به صديق الطرفين (المقصود به فلاديمير لينين) اهتماماً خاصاً”.
في مقدمته الشهيرة المعروفة باسم “مقدمة ابن خلدون” (1377م) لتاريخه الكبير الموسوم ” كتاب العبر، وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر، ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر” نقرأ النص أدناه الذي يؤكد في أكثر من موضع بأن العمل البشري وحده هو خالق القيمة:
“الفصل الأول في حقيقة الرزق والكسب وشرحهما وأن الكسب هو قيمة الأعمال البشرية إعلم أن الإنسان مفتقر بالطبع إلى ما يقوته ويموِّنه في حالاته وأطواره من لدن نشوئه، إلى أشده، إلى كبره؛ والله الغني، وأنتم الفقراء. والله سبحانه خلق جميع ما في العالم للإنسان، وامتن به عليه في غير ما آية من كتابه، فقال: “خلق لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه وسخّر لكم البحر وسخّر لكم الفلك وسخّر لكم الأنعام ” وكثير من شواهده. ويد الإنسان مبسوطة على العالم وما فيه بما جعل الله له من الاستخلاف. وأيدي البشر منتشرة، فهي مشتركة في ذلك. وما حصل عليه يد هذا، امتنع عن الأخر، إلا بعوض. فالإنسان، متي اقتدر على نفسه وتجاوز طور الضعف، سعى في اقتناء المكسب لينفق ما آتاه الله منها في تحصيل حاجاته وضروراته بدفع الأعواض عنها. قال الله تعالى: “فابتغوا عند الله الرزق”. وقد يحصل له ذلك بغير سعي كالمطر المصلح للزراعة وأمثاله. إلا أنها إنما تكون معينة، ولا بد من سعيه معها كما يأتي. فتكون له تلك المكاسب معاشاً إن كانت بمقدار الضرورة والحاجة، أو رياشاً ومتمولا إن زادت على ذلك. ثم إن ذلك الحاصل أو المقتنى إن عادت منفعته على العبد، وحصلت له ثمرته من إنفاقه في مصلحته وحاجاته، سُمّي ذلك رزقاً. قال صلى الله عليه وسلم: “إنما لك من مالك ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت”. وإن لم يُنتفع به في شيء من مصالحه ولا حاجاته، فلا يُسمى بالنسبة إلى المالك رزقاً، والمتملَّك منه حينئذ بسعي العبد وقدرته يُسمى كسباً. وهذا مثل التراث، فإنه يُسمى بالنسبة إلى المالك كسباً، ولا يُسمي رزقاً إذ لم يحصل به منتفع. وبالنسبة إلى الوارثين ـ متي انتفعوا به يُسمى رزقاً. هذا حقيقة مُسمي الرزق عند أهل السنة، وقد اشترط المعتزل في تسميته رزقاً إن يكون بحيث يصح تملكه، وما لا يُتملك عندهم لا يسمى رزق، وأخرجوا الغصوبات والحرام كله عن أن يسمى شيء منها رزقاً، والله تعالى يرزق الغاصب والظالم والمؤمن والكافر برحمته وهدايته من يشاء. ولهم في ذلك حجج ليس هذا موضع بسطها. ثم اعلم أن الكسب إنما يكون بالسعي في الاقتناء، والقصد إلى التحصيل: فلا بد في الرزق من سعي وعمل، ولو في تناوله وابتغائه من وجوهه. قال تعالى: ” فابتغوا عند الله الرزق”، والسعي إليه إنما يكون بأقدار الله تعالى وإلهامه، فالكل من عند الله. فلا بد من الأعمال الإنسانية في كل مكسوب ومتمول. لأنه إن كان عملاً بنفسه مثل الصنائع، فظاهر دال؛ وإن كان مقتني من الحيوان والنبات والمعدن، فلا بد فيه من العمل الإنساني كما تراه، وإلا لم يحصل ولم يقع به انتفاع. ثم إن الله تعالي خلق الحجرين المعدنيين من الذهب والفضة قيمة لكل متموِّل، وهما الذخيرة والقنية لأهل العالم في الغالب. وان اقتني سواهما في بعض الأحيان، فإنما هو لقصد تحصيلهما بما يقع في غيرهما من حوالة الأسواق التي هما عنها بمعزل، فهما أصل المكاسب والقُنية والذخيرة. وإذا تقرر هذا كله، فاعلم أن ما يفيده الإنسان ويقتنيه من المنقولات إن كان من الصنائع فالمفاد المقتني منه قيمة عمله، وهو القصد بالقنية، إذ ليس هناك إلا العمل، وليس بمقصود بنفسه للقنية. وقد يكون مع الصنائع في بعضها غيرها مثل النجارة والحياكة معهما الخشب والغزل؛ إلا أن العمل فيهما أكثر فقيمته أكثر. وان كان من غير الصنائع، فلا بد من قيمة ذلك المفاد والقنية من دخول قيمة العمل التي حصلت به، إذ لولا العمل لم تحصل قنيتها. وقد تكون ملاحظة العمل ظاهرة في الكثير منها، فتجعل له حصة من القيمة عظمت أو صغرت. وقد تخفى ملاحظة العمل كما في أسعار الأقوات بين الناس، فان اعتبار الأعمال والنفقات فيها ملاحظ في أسعار الحبوب كما قدمناه، لكنه خفي في الأقطار التي علاج الفلح فيها ومئونته يسيرة، فلا يشعر به الا القليل من أهل الفلح. فقد تبيَّن أن المفادات والمكتسبات كلها أو أكثرها إنما هي في الأعمال الإنسانية، وتبيَّن مسمى الرزق وانه المنتفع به. فقد بان معنى الكسب والرزق وشرح مسماهما. واعلم أنه إذا فقدت الأعمال أو قلت بانتقاص العمران، تأذّن الله برفع الكسب. أترى إلا الأمصار القليلة الساكن كيف يقل الرزق والكسب فيها أو يُفقد “.
انتهى النص الاول من مقدمة ابن خلدون بصد قانون القيمة.
أما النص الثاني بصدد قانون فائض القيمة (يسميها ابن خلدون: “الاستعمال من غير عوض”) فيقرأ: “الفصل الخامس في أن الجاه مفيد للمال
وذلك إنا نجد صاحب المال والحظوة في جميع أصناف المعاش أكثر يساراً وثروة من فاقد الجاه. والسبب في ذلك أن صاحب الجاه مخدوم بالأعمال يُتقرب بها إليه في سبيل التزلف والحاجة إلى جاهه. فالناس معينون له بأعمالهم في جميع حاجاته من ضروري أو حاجي أو كمالي فتحصل قيم تلك الأعمال كلها من كسبه. وجميع معاشاته أن تبذل فيه الأعواض من العمل يستعمل فيها الناس من غير عوض فتتوفر قيم تلك الأعمال عليه. فهو بين قيم للأعمال يكسبها وقيم أخرى تدعوه الضرورة إلى احراجها فتتوفر عليه. والأعمال لصاحب الجاه كثيرة فتفيد الغنى لأقرب وقت ويزداد مع الأيام يساراً وثروة. ولهذا المعنى كانت الإمارة أحد أسباب المعاش كما قدمناه. وفاقد الجاه بالكلية ولو كان صاحب مال فلا يكون يساره إلا بمقدار ماله وعلى نسبة سعيه وهؤلاء هم أكثر التجار. ولذا تجد أهل الجاه منهم يكونون أيسر بكثير. ومما يشهد لذلك إلا أن كثيراً من الفقهاء وأهل الدين والعبادة إذا اشتهروا، حَسُن الظن بهم، واعتقد الجمهور ان معاملة الله في أرفادهم، فأخلص الناس في اعالتهم على أحوال دنياهم والاعتمال في مصالحهم وأسرعت إليهم الثروة وأصبحوا مياسير من غير مال مقتني الا ما يحصل لهم من قيم الأعمال التي وقعت المعونة بها من الناس لهم. رأينا من ذلك أعداداً في الأمصار والمدن، وفي البدو يسعى لهم الناس في الفلح والتجر وكلٌ هو قاعد بمنزله لا يبرح من مكانه فينمو ماله ويعظم كسبه ويتأثل الغنى من غير سعى. ويعجب من لا يفطن لهذا السر في حال ثروته وأسباب غناه ويساره.”
انتهى النص الثاني من مقدمة ابن خلدون بصدد فائض القيمة.
يتبع، لطفا.
https://www.ssrcaw.org/ar/show.art.asp?t=2&aid=709369