أزمة النظام المالي العالمي ، البحث عن حلول لفوضى حركة رؤوس الأموال
أزمة النظام المالي العالمي
البحث عن حلول لفوضى حركة رؤوس الأموال
الأستاذ الدكتور مصطفى العبد الله ألكفري
سمات جديدة لطبيعة الأزمة المالية التي يشهدها العالم منذ صيف عام 2008، قد تكون المظاهر والأعراض واحدة، ولكن المسببات والمخاطر مختلفة، إذ أن الأزمة الراهنة هي من أهم نتائج عمليات العولمة المالية والتحرير المبكر للأسواق المالية من وإلى البلدان النامية، وتحرك الأموال الساخنة أو الجوالة على نطاق وحجم كبير جداً لم يشهد تاريخ النظام المالي الدولي مثيلا له فيما مضى.
قبل كل شيء لابد من الاعتراف بأن النظام المالي الدولي الراهن، وفي ظل العولمة المتزايدة لأسواق المال والعملات وسيطرة مؤسسات العولمة (صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ومنظمة التجارة العالمية)، يفتقد للقواعد الناظمة التي تحكم سلوك المضاربين الماليين وشركات السمسرة الدولية، بما يحقق مزيداً من الشفافية وضبط حركة رؤوس الأموال قصيرة الأجل وسريعة التداول، وحماية مسيرة التنمية والتقدم في مختلف بلدان العالم.
هناك ضرورة لمزيد من الضوابط والضمانات لحركة رؤوس الأموال قصيرة الأجل سريعة التحرك، بما في ذلك حجم اقتراض القطاع الخاص قصير الأجل بالعملات الصعبة، إذ انه مع اتساع دائرة العولمة والتحرير والخصخصة في الدول النامية، يصعب التحكم بقرارات توسع شركات القطاع الخاص في اللجوء إلي القروض قصيرة الأجل من الخارج بالنقد الإجنبي، للاستفادة من فروق سعر الفائدة بين السوق المحلي والسوق الدولي، وبخاصة إذا كان هذا القرار لا يخضع لرقابة البنك المركزي، أو أية جهة رقابية أخري.
قصور واضح في أسلوب أداء أسواق المال:
نلاحظ قصوراً واضحاً وعميقاً في أسلوب أداء أسواق المال والعملات على الصعيد العالمي، وبخاصة في ظل اتساع نطاق حركة النقود الإلكترونية، وتزايد حجم الأموال الساخنة أو الجوالة، وتكوين مراكز في أسواق المال بواسطة المضاربين وشركات السمسرة الدولية الذين يراهنون على نقاط الضعف في اقتصادات وأسواق المال في الدول الناشئة وبخاصة في الدول النامية.
ويؤدي عدم ضبط تدفقات رؤوس الأموال قصيرة الأجل إلي تزايد حدة الصدمات المالية الخارجية والذعر المالي، الذي يؤثر على مستوي الأداء الأسرع المختلف، ويعصف ببعض مكونات الاقتصاد الوطني في الدول النامية، لذلك لابد من البحث عن حلول جادة لهذه المشكلة التي تمثل أحد مخاطر العولمة الاقتصادية والتحرير والتدويل المالي المبكر.
يمكننا تشبيه حالة البلدان النامية التي تقوم بتحرير وتدويل أسواقها المالية وبورصاتها (بالقارب) المبحر في عرض البحار عالية الموج، وهذا القارب مهما كان تصميمه سليماً هندسياً ويتمتع بطاقم قيادة على درجة عالية من المهارة والكفاءة والأمانة، فهو معرض لخطر الغرق نتيجة ارتفاع الأمواج العالية والعاتية في بحار المال العالمية. واستخدام تعبير القارب هنا وليس السفينة إنما هو إشارة واضحة إلي الحجم الصغير لاقتصادات البلدان النامية، وأسواقها المالية بالمقارنة مع مجمل المعاملات المالية الدولية. وقد شهدت السنوات العشرون الأخيرة اتساع دائرة التعامل مع الأصول المالية وبخاصة الأسهم والسندات ومشتقاتها من عقود آجلة وعقود خيارات على نحو واسع جداً لم تشهد له مثيل من قبل.
هوس مالي (ثقافة الهوس المالي):
وفي ظل هذه (السكرة المالية) اندفعت أعداد وفئات عديدة من المدخرين ومن المضاربين المحترفين إلى دخول لعبة (الحظ والمصادفة) في أسواق المال العالمية، وعندما انهارت الأسواق المالية في أسيا خلال صيف 1997، جاءت التحليلات من البلدان الرأسمالية المتقدمة لتلقي بالمسؤولية على قلة الخبرة للمؤسسات المالية في تلك البلدان. وضعف القطاع المالي، وانعدام رقابة البنوك المركزية والفساد، وغير ذلك من المسببات. وصدّق البعض هذه التحايلات لفترة، وكأن الأزمة ليست (أزمة النظام المالي الجديد) في مجمله الذي يعجز عن التأمين ضد مخاطر السوق المالية المتزايدة، وعدم كفاية رأس المال للشركات المالية وصناديق المخاطرة لتغطية مخاطر السوق غير المتوقعة.
بعد أن كانت (ثقافة الهوس المالي) و(الربح السريع) من خلال معاملات البورصات والأسواق المالية في الماضي مرتبطة حصراً بالمتعاملين من أبناء الطبقات العليا، ظهر اليوم دخول العديد من عناصر الطبقات الوسطي والدنيا في عالم المضاربات والبورصات، وهي تعتمد بشكل متزايد على الدخل الريعي (التريع) المنفصل عن الإنتاج والجهد. وقد يكون هذا الأمر مقبولاً في الدول الرأسمالية المتقدمة التي تجاوزت مرحلة بناء القواعد الإنتاجية وتطورت فيها قوة الأموال بشكل كبير جداً. أما في البلدان النامية، والتي ما تزال فيها القاعدة الإنتاجية والقوى المنتجة غير متطورة، فإن عملية (التريع) ستؤدي إلى إعاقة التنمية.
لم تعد أزمة الأسواق المالية (ذات طابع آسيوي) كما اعتقد البعض في عام 1997 إنما هي (أزمة عامة) للنظام المالي المعولم. ولن يستطيع (صندوق النقد الدولي) القيام بعمليات إنقاذ مالي لكل اقتصاد يدخل دائرة أزمة (الذوبان المالي) نظراً لان موارده المالية محدودة، ولن تسمح بالمزيد من برامج الإنقاذ الكبيرة، ناهيك عن الاعتبارات السياسية والأولويات الإستراتيجية في هذا المجال وإذا استمرت تلك الأعاصير المالية، فإن عمليات العولمة المالية سوف تجر من (المفارم أكثر مما تجلبه من الغنائم) لاقتصاديات الدول النامية وأسواقها المالية الناشئة.
تشير البيانات المتوافرة عن حركة الأموال التي يجري تحركها في الأسواق العالمية إلى أن حجم التعامل اليومي كان نحو 80 مليار دولار في أوائل الثمانينات من القرن العشرين ثم ارتفع إلي نحو 880 مليار دولار أمريكي عام 1992 ثم قفز إلي 1260 مليار دولار أمريكي عام 1995 أي نحو 1.25 تريليون دولار يومياً، ولاشك أن الرقم الآن قد تجاوز مبلغ 2 تريليون دولار أمريكي.
تميزت فترة الكساد الكبير 1929 وغيرها من الأزمات الاقتصادية السابقة بكونها أزمة إنتاج أو كساد وغيرها من المشاكل المتعلقة بالاقتصاد الحقيقي وانعكاسات الأزمة على تقييم أسهم الشركات المعنية والسندات المالية الممولة للاقتصاد.
الأزمة وللمرة الأولى أزمة مالية عالمية بهذا الحجم وستنتقل تدريجياً لتصبح أزمة اقتصاد وإنتاج كساد وركود ومشاكل في التسويق على مستوى العالم. لذلك ربما نشهد سلوكاً متواصلاً من مختلف دول العالم لسياسات تخفيض متقابلة لعملاتها بشكل غير مباشر وربما نشهد أيضاً توجهاً متزايداً نحو مضاربات على العملات بالإضافة إلى توظيفات مكثفة في المواد والمنتجات السلعية مثل الذهب.
الأستاذ الدكتور مصطفى العبد الله ألكفري
كلية الاقتصاد – جامعة دمشق