هل يبدأ عطار التعليم العالي بإصلاح ما أفسد الدهر؟

د. مصطفى حسين بطيخة*

هل يبدأ عطار التعليم العالي بإصلاح ما أفسد الدهر؟

د. مصطفى حسين بطيخة*

في زمن الاستبداد يعمل المستبد جاهداً على تحطيم وتشويه الرموز المجتمعية بكافة أشكالها، فهو لا يريد إلا أن يكون الرمز الوحيد في بلاد نخر فيها الفساد – فساد الاستبداد – حتى العظم، حتى غدا المستبد فيها المفكر الأول، والمعلم الأول، والرياضي الأول، والمهندس الأول، والحقوقي الأول، والطبيب الأول، وكلما أُضيف له لقب “الأول” ابتهج وعلت ضحكته. هو يعلم حق المعرفة أن مزيداً من الألقاب يعني مزيداً من الخوف منه في مجتمعه، مجتمع الاستبداد.

ويُعتبر المعلم أحد أهم الرموز المجتمعية في كل مكان، فثلاثة لا ينساهم الإنسان: أمه، وأبوه، ومعلمه. هو من تُرفع له القبعة وبشكل عفوي إذا ما صادفك في الشارع، وهو من تُقدمه عليك في المجلس، وهو من تستمع إليه بإنصات خجلاً منه حتى وإن خالفته في الرأي، وحين يوبّخك فإنك لا ترد احتراماً لمكانته لديك. هو من تواتر فيه القول: “من علّمني حرفاً كنت له عبداً”، ومن قيل فيه أحمد شوقي: “كاد المعلم أن يكون رسولاً”.

من هنا، فإن المعلم الرمز هو أول من تصيبه سهام المستبد، فيعمل على استبداله بمن لا يرقون إلى “شِسع نعل” المعلم الحقيقي. ويُعتبر المعلم الجامعي متميزاً بين المعلمين من عدة جوانب، أولها أنه هو من يُعلّم المهن على اختلافها، حتى معلمي المدارس قد تتلمذوا على يد أستاذ جامعي. ومع المهنة، يهدف الأستاذ الجامعي إلى نقل أخلاقها، فيصنع من نفسه النموذج الأول لهذه الأخلاق. هو يعمل جاهداً على أن يرسل لتلامذته رسالة مفادها أن لا مهنة بلا أخلاق.

أما الجانب الآخر في تميز الأستاذ الجامعي، فهو أنه يتعامل مع شبان الجامعة، من بدؤوا يتعلمون لأول مرة أنهم ينتمون لوطن أكبر من حاراتهم الضيقة، فيلتقون بطلاب مثلهم من جميع الأطياف المناطقية والمذهبية، وهم يشكلون الآن وعيهم الجديد من خلال حوارات وجدالات وقراءات قد ينتمون بعدها إلى تيارات مختلفة. ومن هؤلاء تنطلق الحماسة والشعارات الاحتجاجية لإسقاط النظم، كل النظم الفكرية السائدة والسياسية. حتى أساتذة الجامعة تراهم يختلفون مناطقياً ومذهبياً وفكرياً، إنها الجامعة، والتي هي ببساطة وطن مصغر بامتياز، هو أول وطن حقيقي مسالم سيتعرف عليه الطالب.

لقد أدرك النظام الأسدي أهمية إسقاط المعلم الجامعي، فعمل على ذلك مرتين: الأولى في مرحلة الأسد الأب، والثانية في مرحلة الأسد الابن، وفي الحالين تم اتباع أسلوب التهجير والاستبدال.

ففي المرحلة الأولى، استغل الأسد الأب صراعه مع الإخوان المسلمين، فقام باعتقال المعلمين بتهم مساندة الجماعة أو إخافتهم ليرحلوا، فتلقّفتهم الدول الأخرى مستفيدة من علمهم وأخلاقيتهم. وهنا عمد الأسد إلى سد الفراغ بتخطيط مسبق، فقام بإرسال البعثات العلمية ممن ثبت ولاؤه وتدنت درجاته وأخلاقياته معاً. وعاد هؤلاء في نهاية الثمانينيات وبداية التسعينات ليملؤوا التعليم العالي.

ويُروى أن 2000 عائد من الإيفاد وحائزي شهادة الدكتوراه من الدول الاشتراكية “الصديقة” قد خضعوا لاختبار النتاج العلمي – الشرط لمعادلة الشهادة في وزارة التعليم العالي – فجاءت النتيجة أن درجة الدكتوراه التي حازوها تعادل الدبلوم، وتم رفض شهاداتهم. فما كان من عضو القيادة القطرية، مسؤول مكتب التعليم العالي (و.ط.)، إلا أن أصدر قراراً يعفيهم من فحص النتاج العلمي كشرط للتعيين، فامتلأ بهم التعليم العالي، فصاروا يشكلون كتلة قوية يدعمون بعضهم، ولا تُصدر قرارات المجالس الجامعية بالتصويت إلا كما يريدون.

لقد عايشتُ هؤلاء عندما كنت مدرساً في جامعة دمشق، وكنت شاهداً على أخلاقيتهم المنحطة، حتى إن معظمهم كان في منتهى البذاءة في حديثه. وأحدهم أصبح نقيباً للمعلمين، من كان يتداول مقاطع فيديو جنسية علانية ودونما استحياء. كان يعلم أن التسابق في الدونية هو ما سوف يوصله لما يريد، ناهيك عن طرق التزوير في الدرجات، والسرقات العلمية، والاستغلال الجنسي للطالبات. وأذكر أن أحد العمداء كان حديث الكلية التي عملت بها بسبب التحرش الجنسي.

في زمن الأسد الابن، ومع دخول معظم الدول الاشتراكية الصديقة في عضوية الاتحاد الأوروبي في التسعينيات، لم تعد هذه الدول تستقبل الموفدين مجاناً، فاتجهت أنظار النظام الأسدي إلى المنح المقدمة من الدول الغربية وعقدت معها اتفاقيات الإيفاد. وذهب الموفدون الذين عادوا وقد حملوا معهم علماً حقيقياً إلى الجامعات السورية بعد العام 2007. ولكن مع قيام الثورة في العام 2011، قاموا بمغادرة البلاد، وكانت هذه الهجرة الثانية.

هنا عمد النظام إلى ملء الجامعات، وللمرة الثانية، بمن هم أشد تبعية له، ففتح باب الحصول على الدكتوراه داخلياً، وشرّع قانوناً في التعليم العالي يجيز إعطاء الدكتوراه بعد سنتين فقط، علماً بأن الحد الأدنى لدراسة الدكتوراه عالمياً ثلاث سنوات للمتفرغ كلياً، وست سنوات للمتفرغ جزئياً. وهنا تشكلت لجان التقييم الوهمية لمن يريدون له الحصول على الشهادة، وأذكر كيف أن أحدهم في كلية الهندسة المدنية قد انعقدت له لجنة تحكيم في يوم السبت – وهو يوم عطلة – حتى يتم منحه الدكتوراه بدون حضور أحد، وامتلأت الجامعات للمرة الثانية بعديمي الأخلاق من لا يملكون من العلم شيئاً.

أما الموفدون المهاجرون، فقد فكر النظام الابن، ومن ورائه وزارة التعليم العالي ممثلة بوزيرها (ع.ن.)، بسرقتهم، فأصدر المرسوم 2017 وألحقه بالمرسوم 2018، الذي ألغى المراسيم السابقة رقم 70 لعام 1971، وقانون البعثات رقم 20 لعام 2004، والتي كانت تنص على دفع نفقات الإيفاد وفق نشرة المصرف المركزي بتاريخ التحويل. فجاء المرسوم 2018 ليلغيها، ويطالب بالدفع بالسعر عند السداد، أي أن النظام ألغى العقود المبرمة مع حوالي 2000 موفد، وجميع هذه العقود تنص على السداد بتاريخ التحويل.

لقد كان هذا الإلغاء من طرف واحد وبشكل مخالف للقانون المدني السوري في مادته 148، التي تنص على أن العقد شريعة المتعاقدين، فلا يجوز نقضه ولا تعديله إلا باتفاق الطرفين. ولكن الطرف الآخر مستبد، يملك جميع السلطات الدستورية والقضائية والتشريعية، فقام بإلغاء العقد. تخيلوا أن البعض مطالبون بسداد حوالي 180 ألف يورو، وهم لا يملكون هذه المبالغ بعد سني عمل طويلة. ولأقرب الأمر للقارئ، فإن الشخص يحتاج للعمل الدؤوب في الغرب عشر سنوات على الأقل ليؤمن هكذا مبلغ.

لقد كان النظام فرحاً ويضحك ملء شدقيه من هكذا قرار، فإما أن يعود الموفد إليه ويواليه، أو أن يبقى في الخارج ويعمل ليلاً ونهاراً ويعطيه. لقد كان قراراً مليئاً بالحقد، كما حقد شايلوك في مسرحية تاجر البندقية لشكسبير، وهو يشحذ السكين ليقتطع رطلاً من اللحم من جسد أنطونيو. كان شايلوك هذه المرة هو النظام الأسدي ووزارة التعليم السورية المتواطئة معه، أما أنطونيو فكان الموفد، وهو ينتظر الذبح.

مما سبق، فإنني أطالب السيد وزير التعليم العالي الحالي باتخاذ إجراءين عاجلين:

الأول: تشكيل لجان من الكفاءات وفق الاختصاص لإعادة دراسة النتاج العلمي للحاصلين على الدكتوراه من الجامعات السورية بعد العام 2011.

والثاني: إلغاء المرسومين 2017 و2018 بدون تأجيل، والعودة لتطبيق العقود المبرمة مع الموفدين والتي تم إلغاؤها من طرف واحد بهذين المرسومين، وتطبيق المبدأ الحقوقي البسيط: “العقد شريعة المتعاقدين”. وبهذين الإجراءين نستطيع القول إن عطار التعليم العالي الجديد قد بدأ بإصلاح ما أفسد الدهر.

*حاصل على الدكتوراة في الهندسة المدنية من جامعة أدنبرة ومدرس سابق في جامعة دمشق وله عدة مؤلفات فكرية وأدبية،

زمان الوصل 20/03/2025

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

8 + ثلاثة عشر =

آخر الأخبار