الحصار والعقوبات والإرهاب الاقتصادي الدولي
الأستاذ الدكتور عابد فضلية
الحصار والعقوبات والإرهاب الاقتصادي الدولي
الأستاذ الدكتور عابد فضلية
البحث منشور في مجلة الفكر السياسي التي تصدر عن اتحاد الكتاب العرب – دمشق
المقدمة: الإرهاب واحد، وأوجه ممارسته وأدوات تنفيذه مختلفة، بالتالي، وكما للحرب جبهات متعددة، فإن للإرهاب أشكال وأنواع ومستويات متعددة، منها المسلح والأمني والسياسي والدبلوماسي والفكري والإعلامي والنفسي، وكذلك الاقتصادي، الذي لا يقل تأثيراً وإضراراً وتخريباً عن الأشكال والمستويات الأخرى للإرهاب، بما في ذلك ممارسات الحصار وفرض العقوبات الاقتصادية، وخاصةً عندما تمارسه دولُ تغطي نفسها بمظلة الأمم المتحدة، وعلى الأخص عندما يُمارس (هذا الإرهاب) تحت اسم القانون الدولي والإنساني، وبغطاء من المنظمات والمؤسسات الدولية.
إن ما يحدث اليوم ما هو إلا مخطط جديد قديم، يندرج في سياق ترسيخ أسس ما يسمى بــ(النظام العالمي الجديد)، الذي في حقيقته ليس سوى القناع الجديد لوجه مُحدّث لواحد من الأوجه القديمة والقبيحة للرأسمالية الجشعة، التي تُفضي إلى إغناء الطغم المالية على حساب إفقار الدول والشعوب، وما هي إلا شكل جديد من أشكال التسلط لطراز قديم من الهيمنة، بدأ به الحلفاء أثناء، وبعد فترة الحرب العالمية الثانية، عندما عمل الحلفاء على تأسيس منظمات ومؤسسات الأمم المتحدة لم تأخذ سوى مصالحهم بعين الاعتبار، هذه الحرب التي نشبت في حقيقة أسبابها ودوافعها آنذاك لإخراج الاقتصادات الرأسمالية من ذيول وآثار أزمة الكساد العالمي الكبير عام (1929). لذا، ومما لا شك فيه، فإن الهدف الأساس لإنشاء هذه المؤسسات والمنظمات الدولية هو تحقيق ومراعاة مصالح الدول المنتصرة في الحرب وللخروج من حالة الدمار الذي تسببت به هذه الحرب، وبالتالي فإن الأسس والخلفية والتشريعات والحقوق والمزايا التي أُنشأت عليها هذه المؤسسات والمنظمات الدولية آنذاك وفي فترة الخمسينات والعقود التي تلتها، لم تراعِ المصالح الحقيقية للدول النامية والضعيفة والصغيرة، وهي حتى لم تلحظ حقها في الدفاع عن سيادتها.
والتاريخ يعيد نفسه، لأن ما نعيشه ونشهده اليوم من حرب ظالمة على الأرض السورية ومن اضطرابات وصراعات وأحداث إقليمية ودولية، مسلحة وغير مسلحة ما هو إلا امتداد لتحقيق مصالح حلفاء الحرب العالمية الثانية، الذين حوّلوا حرباً افتراضية عالمية ثالثة متعددة الجبهات والغايات (منذ الأزمة المالية الآسيوية في التسعينيات من القرن الماضي، وعلى الأخص بعد الأزمة المالية الاقتصادية العالمية عام 2008)، من حربٍ (اقتصادية) أو (عسكرية افتراضية) فيما بينهم وعلى أرضهم، إلى حروب (داخلية، أمنية عسكرية) جزئية متفرقة بين الآخرين، فوق أراضيهم وعلى نفقة شعوبهم، فجاءت أطروحة العولمة الاقتصادية لتُحقق ذلك، من خلال استغلال الحروب وحتى افتعالها بما يسمح بتصدير التناقضات التناحرية الداخلية الكامنة في طبيعة النظام الرأسمالي (الجامح)، لتتمكن الشعوب الغربية من العيش على فروقات القيمة المضافة التي تُحصلها عبر صادراتها من خارج الحدود، متوافقة مع نفسها في صراع الطبقات، لتتحول التناقضات المجتمعية التناحرية إلى تناقضات غير تناحرية تم الاعتياد عليها، بل تم ويتم وتخفيفها أيضاً على نفقة وحساب، بل وتعاسة الشعوب الأخرى، من دول وشعوب الأطراف، ويلعب دوراً في كل ذلك (الإرهاب الاقتصادي الدولي).
المبحث الأول: مفهوم الإرهاب الاقتصادي الدولي:
أولاً- العقوبات الاقتصادية والحصار الاقتصادي شكل من أشكال الإرهاب الاقتصادي الدولي:
لا تسمية أخرى للعقوبات الاقتصادية الظالمة والحصار الاقتصادي الجائر إلا على أنه إرهاب اقتصادي دولي. فعندما يعتدي شخص ما على شخص آخر بدون وجه حق، ويستخدم هذا المعتدي أداةً مؤذية، وكان من أهداف هذا الاعتداء ترهيب المعتدَى عليه وسلبه شيئاً يملكه، كأن يسلبه جزء من قوّته الشرائية وينال من مستوى معيشته، فإن ذلك يُعد سطواً غير مشروع وعملاً جرمياً، وبالمحصلة عملاً وسلوكاً إرهابياً اقتصادياً، وباعتباره أن من يمارسه دولة أو دول أعضاء في منظمة الأمم المتحدة على دولة أو دول أعضاء في المنظمة ذاتها، فهو “إرهاب اقتصادي دولي”، طالما أنه قسري، وحيد الجانب وغير شرعي لا يقل إيذاءً عما تسببه جرائم الحرب والأنواع المقيتة الأخرى للإرهاب.
إن ما يجري اليوم تحت عناوين ومسميات مختلفة ما هو إلا إطلاق لعنان الرأسمالية المتوحشة ومصالح الطغم المالية حول العالم، التي تهدف إلى المزيد من السيطرة على مقدرات وقرارات الشعوب والدول المخالفة لآرائها والمختلفة مع مصالحها، فهي تُسخّر المؤسسات والمنظمات الدولية وتستغلها لتحقيق غاياتها وأهدافها، مستخدمةً مختلف النظريات والوسائل والحجج والأدوات والطرائق، بما فيها لافتات وشعارات الديمقراطية وحقوق الإنسان وتهديد الأمن القومي، إلى حدٍ راحت فيه هذه الطغم وأدواتها ومن يمثل مصالحها من دول ومؤسسات وكيانات، تسهم بدعم الإرهاب وتأجيج الحروب العسكرية والصراعات القومية والاثنية والطائفية في بلدان حرة مستقلة، وهذا ما نعيشه اليوم ونراه في أكثر من منطقة من العالم، بما فيها في سورية ودول أخرى.
ثانياً- الأنواع الأخرى للإرهاب الاقتصادي الدولي، وأشكاله:
إن الحصار والعقوبات والشروط المنتقاة التمييزية لمحددات التجارة الخارجية العالمية التي تُتخذ وتُفرض من الجانب الأقوى ضد مصالح الدول الضعيفة والنامية، ليست سوى الصورة الأبسط للابتزاز والإرهاب الاقتصادي الدولي، الذي تتبناه وتنفذه منظمة التجارة العالمية والمنظمات الرديفة الأخرى، عدا عن الهيمنة الأمريكية والغربية على صندوق النقد والبنك الدوليين، وبرامج الإصلاح الاقتصادي -الأيديولوجي- التي يتم فرضها من قبلهما على هذه الدول أضف إلى ذلك:
- استنفاذ مقدرات الشعوب من خلال (فرض العسكرة وتأجيج سباق التسلح)،
- الهيمنة على البورصات وحركة ووجهات رأس المال،
- تسييس قرارات منح الائتمان الدولي،
- فرض القيود الجمركية الانتقائية،
(التحكم بتجارة المنتجات التكنولوجية والسلع الضرورية والغذائية والمواد الأولية)، حيث وعلى سبيل المثال، فإن (الشركات متعددة الجنسيات)، تُسيطر عالمياً على (85%) من تجارة المواد الغذائية وعلى (95%) من تجارة المواد الخام الزراعية.
المبحث الثاني: الجذور التاريخية للإرهاب الاقتصادي الدولي
أولاً- النهب الاستعماري والتراكم الأولي لرأس المال الغربي/ لمحة تاريخية:
إن جذور الرأسمالية منغرسة بالحروب والاستعمار بدافع الراغبة الجامحة بتحقيق بجني الأموال وتراكم الثروات. فبعد ستة قرون من الإقطاع والحياة الزراعية المغلقة، ومع الحملة الصليبية الأولى التي أدت إلى احتلال القدس (عام 1098)، استفاقت أوربا المتخلفة المتفككة الأوصال على ثروات الشرق الغني، وتوالت حملات حكامها على رؤوس جيوش الفلاحين الفقراء الطامحين للتحرر من نير الإقطاع والفقر الشديد، وكان آخرها الحملة الفاشلة التي قادها ملك فرنسا (لودفيغ التاسع) على تونس (عام 1270).
منذ الحروب الصليبية التي شنها الغرب على الشرق (1098-1270)، ظهر الثراء على تجار تلك الحروب والمستفيدين المباشرين وغير المباشرين منها، وهم ذاتهم الذين تحولوا شيئاً فشيئاً إلى طبقة برجوازية تجارية ربوية فاعلة اقتصادياً وسياسياً، والتي راحت، لحماية مصالها، تتحالف مع الملوك ضد الإقطاعيين، مما قوّى سلطة الدولة (الأوربية) آنذاك، ودفع باتجاه قيام الامبراطوريات الاستعمارية، وهذا ما أدى إلى أدى إلى بدء ازدهار الاقتصادات الغربية التي تابعت نموها في القرنين الرابع عشر والخامس عشر، واتسع نطاق غزو المستعمرات، لنهب ثرواتها من الخامات والذهب والفضة، ولفتح الأسواق الخارجية للصناعات المانيفوكتورية الناشئة، وتأمين مصادر موادها الاولية، وبالتالي فإن التراكم الأولي لرأس المال الذي ساعد الدول الأوربية لاحقاً على الانتقال إلى أسلوب الإنتاج الرأسمالي، تكون معظمه من الثروات التي تم نهبها من الشرق العربي والإسلامي، والدول الأخرى في إفريقيا وآسيا والهند الصينية، وحتى أن اغتناء البرجوازية الإنجليزية قبيل الثورة الصناعية، لم يترسخ إلا بانتصار الامبراطورية البريطانية في الحروب التي شنتها على فرنسا، والاستيلاء على مستعمراتها، لذا فإن نشوء وتطور الرأسمالية كان وما زال مرتبط جدلاً بالاستغلال والاستعمار والإرهاب الاقتصادي.
وكما قال (إل برغر) (1): إن الاستعمار هو التعبير الضروري عن الرأسمالية في مرحلة متقدمة، ولذلك فإن النظام الدولي الجديد، هو استعادة جديدة للاستعمار القديم إلا أن ما يميزه هو الآتي:
*-القطبية الأحادية للهيمنة العسكرية والسياسية، والقطبية الثلاثية للهيمنة الاقتصادية (الولايات المتحدة/ أوربا الغربية/ اليابان).
*-استغلال التطور التقني والتكنولوجي (العسكري والمدني) في التحكم (عن بُعد) في كل بقعة من بقاع العالم.
*-الهيمنة على هيئات ومؤسسات الأمم المتحدة، والدولية الأخرى، والتطابق التام بين الإرادة السياسية الأمريكية والغربية وبين (الشرعية الدولية).
*-المحاولات الغربية لإعادة التشكيل (أو الضبط) البنيوي للشعوب والأنظمة والقوى المخالفة لها أو الرافضة للنظام العالمي الجديد، عن طريق إشعال الحروب والنزاعات المسلحة بالوكالة، وعن طريق التصعيد السياسي والتهديد والإرهاب العسكري والأمني، وممارسة وشرعنة الإرهاب الاقتصادي.
ثانياً- الإرهاب الاقتصادي الدولي وتجارة الحروب وتصدير الأزمات:
إن الأزمات الاقتصادية هي جزء لا يتجزأ من النظام الرأسمالي، ومن طبيعته ومن تاريخه وسيرورة تطوره عبر عشرات العقود من السنين الماضية. فمنذ أزمات عام (1825) وعام (1870)، اللتان انطلقتا من إنجلترا آنذاك، وحتى نهاية الثمانينيات من القرن الماضي(2)، وعدا عن أزمة (2007/2008)، فقد بلغ عدد الأزمات الاقتصادية (الدورية/العامة) ثلاث عشرة أزمة، وكانت تلك التي حدثت عام (1929)، هي الأعنف والأشد وطأةً على الدول الرأسمالية وبقية دول العالم آنذاك، وهي التي أدت (بالمحصلة) إلى نشوب الحرب العالمية الثانية، لذا ولمواجهة مثل هذه الأزمات، وللتخفيف من حدتها، ولحماية نفسها وأنظمتها، فقد راحت النظريات والحكومات والدول الرأسمالية تُظهر قدرات كبيرة أو متنامية على التكيف مع أوضاعها المأزومة، والتخفيف من حدة تناقضاتها التناحرية على مستويين:
المستوى الأول/ تقديم مزايا للطبقة العاملة في الدول الرأسمالية، على حساب التشديد من استغلال الشعوب الأخرى.
المستوى الثاني/ تغيير أطراف الصراع الاقتصادي التقليدي ما بين الدول الرأسمالية في تنافسها على المصالح الخارجية وأسواق الدول الأخرى، إلى صراع اقتصادي-سياسي-ايديولوجي وعسكري، ما بين الامبريالية العالمية ومن يؤيدها بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، وبين بقية دول العالم.
أما مجموعة أدوات هذا الصراع فتتراوح ما بين السلاح الحربي وبين الأدوات الأخرى للإرهاب، الذي أحد وجوهه الإرهاب الاقتصادي.
وحول تصدير الأزمة الأخيرة (2007/2008)، لا بد من القول أن أزمة قروض الرهن العقاري الـ(Sub-Prime) ومشكلة التوريق التي اعتقد الكثير من المراقبين أنها سبب الأزمة المالية العالمية الأخيرة التي انفلتت في الأسواق المالية الأمريكية، ما هي إلا المحصلة والقشور التي لفّت جوهر الأزمة الكامنة في كنه النظام الرأسمالي، وهي الأزمة التي بررت، ودفعت بالوقت ذاته، الولايات المتحدة والمعسكر الغربي من ورائها إلى التدخل المعلن والسري في شؤون الدول الأخرى وفرض العقوبات وافتعال الحروب والأزمات، بما ذلك الإرهاب العسكري والسياسي والأمني والاقتصادي، مع الاستعانة في إطار ذلك ببيادق وكيانات ودول أطراف تابعة – صديقة، ومجموعات وتنظيمات متطرفة إرهابية مرتزقة رديفة، لذلك، وانطلاقاً من الأسباب والجذور، لا نتوقع أن يهدأ كل ذلك ما لم تبدأ آثار الأزمة المالية الاقتصادية بالانحسار، وهي لم تنحسر حتى اللحظة، ولا نتوقع أن تنحسر قبل عدة سنوات.
ثالثاً – أنواع وأشكال وتاريخ العقوبات والحصار الاقتصادي على سورية:
يعود إرهاب الحصار والعقوبات الاقتصادية على سورية إلى عهد (جورج بوش الابن)، رداً على مواقف سورية السياسية المبدئية تجاه أحداث المنطقة آنذاك، عندما استصدر (قانون محاسبة سورية) عام (2003)، ليضيف عقوبات جديدة على عقوبات سابقة غير مباشرة كانت قد اتخذت قبل ذلك بسنوات طويلة…، وفيما يتعلق بمجموعات العقوبات التي اتخذت منذ (2011):
العقوبات الأمريكية (قبل قانون سيزر): العقوبات التي فُرضت بتاريخ (10/8/2011)، وتتعلق بتوقيف التعاملات المصرفية وحظر توريد الأسلحة ومنع استيراد النفط والغاز وتجميد أصول حكومية، ومنع السفر عن شخصيات سورية.
عقوبات الاتحاد الأوربي: ولها التأثير الأكبر بسبب أن الاتحاد الأوربي كان الشريك الأكبر في مجال التجارة الخارجية، وأصابت العديد من المجالات والقطاعات، منها إيقاف شراء السندات السورية والتعاون المالي ومنع البنوك السورية من فتح فروع لها في أوربا، وتجميد إمكانية الاستفادة من تسهيلات بنك الاستثمار الأوربي.
عقوبات جامعة الدول العربية: وهي حديثة نسبياً، وتضمنت منع التعاون في السلع غير الضرورية ووقف التعاملات المالية مع المصرف المركزي وجميع التعاملات المالية، ووقف تمويل المشروعات الاستثمارية.
العقوبات التركية: وتجسدت في عقوبات مالية وتجارية وتجميد الأصول السورية ووقف التعاون مع المصرف المركزي وتجميد أحكام اتفاقية التجارة الحرة الثنائية.
والمحصلة ارتفاع تكاليف الإنتاج، وأثمان السلع المستوردة والمحلية، أي تأجيج نسب ومعدلات التضخم، بما في ذلك، كسبب ونتيجة، ارتفاع أسعار القطع الأجنبي وانخفاض قيمة العملة الوطنية، وبالتالي تراجع مستوى المعيشة لشرائح عريضة من السوريين.
أما العقوبات الأمريكية التي فرضت بموجب (قانون قيصر): فيتمثل فيها (الإرهاب الاقتصادي الدولي) من أوسع أبوابه وبأبشع صوره حيث إن هذا القانون تضمن صيغاً وأحكاماً في غاية الدهاء، وهو يختلف عن غيره من تشريعات الإجراءات القسرية أحادية الجانب الأمريكية السابقة، كونه:
وسّع من شريحة الأشخاص الاعتباريين والطبيعيين المهددين بالعقوبات في حال تعاملهم بصورة مباشرة أو غير مباشرة مع جهات سورية.
ركّز على التضييق على قطاع الطاقة، القطاع الحيوي الأهم في الاقتصاد، وهذه ليست المحاولة الأولى للتضييق على هذا القطاع، ولكن توقيتها في فترة تحتل فيه القوات الأمريكية وحلفاؤها منطقة غنية بالبترول والغاز، تتم سرقتها ويتم تصريفها إلى الخارج.
ركّز (مرةً أخرى) على أنشطة مصرف سورية المركزي للتضييق على حركة القطع الأجنبي.
نصّ على فترة طويلة (5 سنوات) لتبيان آثاره، الأمر الذي نية الأمريكي جعل حالة التضييق حالة يومية مستمرة خلال هذه الفترة.
رابعاً- الاستنتاجات:
لقد سن العالم ومنظماته ومؤسساته الدولية المئات من القوانين والتشريعات والضوابط التي تنظم العلاقات بين الدول والمؤسسات الدولية، إلا أن تشريعاً واحداً فقط لم يصدر بخصوص محاربة ولجم ومنع الإرهاب الاقتصادي الدولي، وبالتالي فإن الدول الفاعلة وعرّابو هذه التشريعات الدولية ليس لهم مصلحة بأي تشريع دولي يحارب أو يلجم أو يمنع هذا النوع من الإرهاب، كونهم هم ذاتهم من يمارسه. وعن عولمة المؤسسات والمنظمات والقوانين والتشريعات الاقتصادية والتجارية، فهي بدورها تدويل فرضه القوي على الضعيف، فأصبحت العلاقات الدولية في ظل العولمة، وفي إطار ممارسات بعض الدول الكبرى، علاقات تسلط ورضوخ وإذعان وإملاء، عدا عن كونها محاولات لنسف الحدود الوطنية والسيادية للدول الوطنية الحرة المستقلة.
لذا نرى أن على دول العالم الحر وشعوبها وأحزابها ومنظماتها ومؤسساتها الاقتصادية وغير الاقتصادية أن تتكاتف وتُطالب بتغيير هذا الواقع، وأن تُغير وتُطور وتُعدل في سياساتها الداخلية والخارجية، وتسن قوانينها وتشريعاتها الوطنية والثنائية والإقليمية والقومية التي تُجسد بحق مصالح شعوبها وتحمى حقوقها بحيث تقوى فرادى وجماعات على مواجهة ومقاومة الصلف الغربي والإرهاب الدولي بمختلف صوره وأشكاله، العسكري والاقتصادي والسياسي والفكري والدبلوماسي والإعلامي.
خامساً- بعض المقترحات للتخفيف من الآثار السلبية لــ(قانون سيزر) والعقوبات الاقتصادية الأخرى:
1ً- التركيز الشديد (والفاعل) على الاستثمار في قطاع الطاقة بكافة أنوعها، ودعم هذا القطاع بكافة جوانبه، بما في ذلك الدعم المطلق لمستلزمات إنتاج الطاقة، الأحفورية والمتجددة.
2ً- الاعتماد على الذات وعلى الطاقات البشرية والمادية الوطنية، وتشجيع الصناعات التصديرية وصناعات ومنتجات بدائل المستوردات، وخاصةً منها التي تستخدم المواد الأولية محلية الصنع..، الأمر الذي يستلزم بالطبع اتخاذ حزمة من التشريعات الجديدة والإجراءات المناسبة.
3ً- لجم أنشطة التهريب إلى أضيق الحدود، لا سيما منها التي تسوق المواد والسلع غير الضرورية و/أو غير الإنتاجية.
4ً- ترشيد ما يتم استخدامه منه من خلال إعادة النظر بطبيعة المستوردات التي تتم تغطيتها بالقطع الأجنبي للنظر فيما إذا كان مبرراً تغطية استيراد بعضها، وفيما إذا كان لازماً تغطية مستوردات أخرى لازمة وضرورية في ظل التحديات والمستلزمات والظروف الجديدة والطارئة.
5ً- أن يعمل مصرف سورية المركزي على:
(أ)/- اتخاذ كل ما من شأنه ترميم المخزون الاستراتيجي لمصرف سورية المركزي من القطع الأجنبي، بما في ذلك إعادة النظر بأسعار النشرة الرسمية للقطع الأجنبي، بحيث تكون مرنة وتتناسب مع المستوى الذي يؤدي إلى جذب بائعي القطع الأجنبي (النقدي) داخلياً لتشتريها المنافذ المعتمدة رسمياً من قبله، بمن فيهم المصدرين، وعند المستوى الذي يُشجع المغتربين السوريين على إرسال الحوالات من الخارج إلى الداخل عبر الطرق الرسمية التي يُحددها.
(ب)/- إعادة النظر بالآليات والإجراءات المطبقة (من قبله) لدخول وخروج رؤوس الأموال وأرباحها من القطع الأجنبي، للنظر بإمكانية جعلها أكثر مرونة وسهولة ووضوحاً، …، وأكثر شفافية لتكون مطمئنة لأصحابها من المستثمرين.
سادساً- الخاتمــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــة:
منذ عام (2002) أشار المفكر العربي الكبير (سمير أمين) إلى النزعة العسكرية الأمريكية في النظام الدولي الجديد (3)، عندما قال، بأن (مرحلة الإمبريالية القومية ستتسم بالتحالف الاقتصادي العسكري ما بين جميع المراكز الرأسمالية الامبريالية (وحلفائها الهامشيين) ضد دول العالم الأخرى غير الرأسمالية، وبالسيطرة والهيمنة على هذه الدول في إطار صراع لن يقتصر على الصعيد الاقتصادي والسياسي فحسب، بل سيغلب عليه الطابع العسكري.
فالإيديولوجية الامبريالية، بحسب أطروحة الأمريكي الليبرالي (روبرت كيوهان) تستند إلى أن (الهيمنة تخلق الاستقرار عن طريق احترام مجموعة من قواعد اللعب)، وبالتالي (كما ورد في كتاب الاقتصاد السياسي للدكتور محمد دويدار)، فإن الحروب هي أداة (لإعادة تقسيم العالم بين رؤوس الأموال الدولية، وعندما تتهدد الحرب الوجود الرأسمالي نفسه، تنفجر الحروب المحدودة والنزاعات المسلحة في كل أنحاء الأرض) (4)…. وهذا ما نشهده، ونعيشه ونعاني منه اليوم.
__ ****** __
الأستاذ الدكتور عابد فضلية
أستاذ في كلية الاقتصاد بجامعة دمشق
رئيس مجلس مفوضي هيئة الأوراق والأسواق المالية السورية
دمشق (24/02/2020)
المصادر والمراجع:
إل برغر، الثورة الرأسمالية، ترجمة أحمد العناني، مركز الكتب الأردني (1991)، ص134.
زنابيلي، عبد المنعم، العالم الثالث في التوازن الاقتصادي العالمي، منشورات وزارة الثقافة، دمشق (1992)، ص19.
أمين، سمير، النزعة العسكرية الأمريكية في النظام الدولي الجديد، مجلة الوحدة، الصادرة عن المجلس القومي للثقافة العربية، العدد 90 (آذار/2002)، ص34.
أمين، سمير، النزعة العسكرية الأمريكية في النظام الدولي الجديد، مجلة الوحدة المصدر سابق الذكر، (ص35).