ابن سينا الشيخ الرئيس ظاهرة فكرية عظيمة

الأستاذ الدكتور مصطفى العبد الله الكفري

ابن سينا الشيخ الرئيس ظاهرة فكرية عظيمة

الشيخ الرئيس ابن سينا | مكتبة بلاتينيوم بوك | حيث للقراءة نكهة!

(370 – 427 هـ) (980 – 1037 م)

الأستاذ الدكتور مصطفى العبد الله الكفري

ولد أبو علي الحسين بن عبد الله بن الحسن بن علي بن سينا، الملقب بالشيخ الرئيس، منذ حوالي ألف عام في قرية (أفشنة) قرب بخارى الفارسية سنة 980 م. كانت أمه من أهل القرية بينما جاء أبوه من بلخ (أفغانستان حالياً). ثم انتقل مع أهله إلى بخارى (أوزبكستان حالياً)، ليقوم أبوه بإدارة بعض الأعمال المالية للسلطان موح بن منصور الساماني. [1]

ختم ابن سينا القرآن وهو ابن عشر سنين، وتعمق في العلوم المتنوعة من فقه وأدب وفلسفة وطب. واستطاع ابن سينا في الثامنة عشر من عمره أن يعالج السلطان نوح بن منصور من مرض حار فيه الأطباء، ففتح له السلطان مكتبته الغنية مكافأة له. وبقي في بخارى حتى سن العشرين ثم انتقل إلى خوارزم حيث مكث هناك عشر سنوات (392 – 402 هـ)، ومنها انتقل إلى جرجان ثم إلى الري. وبعد ذلك انتقل إلى همذان وأقام فيها تسع سنوات، ومن ثم دخل في خدمة علاء الدولة بأصفهان. وهكذا أمضى حياته متنقلاً حتى وفاته في همذان، في شهر شعبان سنة (427 هـ 1037 م). ويذكر أنه أصيب بداء (القولنج) في آخر حياته. وحينما أحس بدنو أجله، اغتسل وتاب وتصدق وأعتق عبيده. [2]

(وكان ابن سينا عالماً وفيلسوفاً وطبيباً وشاعراً، ولُقِّب بالشيخ الرئيس والمعلم الثالث بعد أرسطو والفارابي، كما عرف بأمير الأطباء وأرسطو الإسلام، وكان سابقا لعصره في مجالات فكرية عديدة، ولم يصرفه اشتغاله بالعلم عن المشاركة في الحياة العامة في عصره؛ فقد تعايش مع مشكلات مجتمعه، وتفاعل مع ما يموج به من اتجاهات فكرية، وشارك في صنع نهضته العلمية والحضارية… وقد أثارت شهرة ابن سينا ومكانته العلمية حسد بعض معاصريه وغيرتهم عليه، ووجدوا في نزعته العقلية وآرائه الجديدة في الطب والعلوم والفلسفة مدخلا للطعن عليه واتهامه بالإلحاد والزندقة، ولكنه كان يرد عليهم بقوله: إيماني بالله لا يتزعزع؛ فلو كنت كافرا فليس ثمة مسلم حقيقي واحد على ظهر الأرض).  [3]

تقوم النظريات العلمية لابن سينا على أساسين: نظري وعملي، يتكون الجزء النظري من الطبيعة والرياضيات والميتافيزيقيا، وأما الجزء العملي فيتكون من الاقتصاد والسياسة. ولهذه العلوم الأصلية فروع وتوابع، فالطب مثلاً من توابع العلم الطبيعي، والموسيقى وعلم الهيئة من فروع العلم الرياضي. ومن أهم العلوم الأصلية:

  • العلوم الآلية، وتشتمل على كتب المنطق، وما يلحق بها من كتب اللغة والشعر.
  • العلوم النظرية، وتشتمل على كتب العلم الكلّي، والعلم الإلهي، والعلم الرياضي، والعلم الطبيعي.
  • العلوم العملية، وتشتمل على كتب الأخلاق، وتدبير المنزل، وتدبير المدينة، والتشريع.

مؤلفات ابن سينا:

ألّف ابن سينا حوالي 450 كتاباً ودراسة في مواضيع مختلفة، ركّز فيها على الفلسفة والطب. ويعد ابن سينا من أول من كتب في مجال الطبّ في العالم الإسلامي، حيث اتبع أسلوب هيبوكراتس وجالينو ومنهجهما. ترك لنا مؤلفات كثيرة شملت مختلف حقول المعرفة في عصره كالفلسفة والرياضيات والطبيعيات والطب والموسيقى، أهمها:

كتب الفلسفة:

أهم مؤلفات ابن سينا في الفلسفة: الإشارات والتنبيهات، الشفاء، النجاة.

كتب الرياضيات:

أهم مؤلفات ابن سينا في مجال الرياضيات: رسالة الزاوية، ومختصر إقليدس، ومختصر الارتماطيقي، ومختصر علم الهيئة، ومختصر المجسطي، ورسالة في بيان علّة قيام الأرض في وسط السماء. طبعت في (مجموع جامع البدائع)، بالقاهرة سنة 1917.

كتب الطبيعيات:

جمعت طبيعيات ابن سينا في الشفاء والنجاة والإشارات، وما نجده في خزائن الكتب من الرسائل ليس سوى تكملة لما جاء في هذه الكتب. ومن هذه الرسائل: رسالة في إبطال أحكام النجوم، ورسالة في الأجرام العلوية وأسباب البرق والرعد، ورسالة في الفضاء، ورسالة في النبات والحيوان.

كتب الطب والصيدلة:

أشهر كتب ابن سينا الطبية: كتاب (القانون)، ترجم وطبع عدّة مرات وظل يُدرس في جامعات أوروبا حتى أواخر القرن التاسع عشر. (لم يشتهر كتاب القانون بالطب فقط بل اشتهر ككتاب فلسفي أيضا، ويقوم على تجارب بعض الأطباء اليونانيين خلال عصور الإمبراطورية الرومانية، وبعض الأعمال العربية وملاحظاته الإكلينيكية، وقد استعمل هذا الكتاب في أرجاء العالم الإسلامي وأوروبا كمرجع أول للطب ولفترة جاوزت ستة قرون، كانت أول ترجمة له إلى اللاتينية في القرن الثاني عشر الميلادي وأعيدت طباعته حوالي خمس عشرة مرة قبل عام 1500 م ثم أعيدت ترجمته إلى اللاتينية 1527م، ومن المعروف أنه درس في جامعات مون بليه ولوفان عام 650 م وفي فرنسا. وكان ثاني كتابا في تاريخ الطباعة يطبع باللغة العربية عام 1593 م). [4]

ومن أهم مؤلفاته كتاب الشفاء وكتاب القانون في الطب.

خصص كتاب القانون للشيخ الرئيس ابن سينا جزءاً لموضوع الصيدلة، بالرغم من أن ذلك العصر لم يعرف بعد الصيدلة كعلم مستقل. حيث صنف العقاقير تبعا للونها وطعمها ورائحتها وتأثيرها، ففي الطعم فقط جعلها ثماني مجموعات، وبالتأثير صنفها إلى 41 مجموعة. كما ذكر الأخطاء التي يمكن أن تحدث أثناء تحضير العقاقير، والتغيرات التي تنتج عن طبخها وتسخينها. ثم شرح طرق تحضيرها بمنهاج صحيح، بواسطة الطحن والعجن والتكسير والتسخين وغيرها.

ومن كتبه الطبية أيضاً كتاب الأدوية القلبية، وكتاب دفع المضار الكلية عن الأبدان الإنسانية، وكتاب القولنج، ورسالة في سياسة البدن وفضائل الشراب، ورسالة في تشريح الأعضاء، ورسالة في الفصد، ورسالة في الأغذية والأدوية. ولابن سينا أراجيز طبية عديدة منها: أرجوزة في التشريح، وأرجوزة المجربات في الطب، وأرجوزة (الألفية الطبية) المشهورة التي ترجمت وطبعت مرات عديدة.

(وكان ابن سينا سابقاً لعصره في كثير من ملاحظاته الطبية الدقيقة، فقد درس الاضطرابات العصبية والعوامل النفسية والعقلية كالخوف والحزن والقلق والفرح وغيرها، وأشار إلى أن لها تأثيراً كبيراً في أعضاء الجسم ووظائفها، كما استطاع معرفة بعض الحقائق النفسية والمرضية عن طريق التحليل النفسي، وكان يلجأ في بعض الأحيان إلى الأساليب النفسية في معاجلة مرضاه). [5]

كتب الرصد وعلم الفلك:

كان لابن سينا ريادات في مجال علم الفلك حيث استطاع أن يرصد مرور كوكب الزهرة عبر دائرة قرص الشمس بالعين المجردة في يوم (10 جمادى الآخرة 423 هـ الموافق 24 مايو 1032م)، وهو ما أقره الفلكي الإنجليزي “جير مياروكس” في القرن السابع عشر. كما تعمق ابن سينا في علم الهيئة، ووضع في مجال الرصد آلات لم يُسبق إليها، وله في ذلك عدد من المؤلفات القيمة، مثل: كتاب الأرصاد الكلية، رسالة الآلة، الرصدية، كتاب الأجرام السماوية، كتاب في كيفية الرصد ومطابقته للعلم الطبيعي، مقالة في هيئة الأرض من السماء وكونها في الوسط، كتاب إبطال أحكام النجوم.

كتب الموسيقى:

من أشهر مؤلفات ابن سينا الموسيقية: مقالة جوامع علم الموسيقى، مقالة الموسيقى، مقالة في الموسيقى.

(كان ابن سينا دائما ينشد الكمال، لقد تعلم وأتقن الفارسية والعربية، وحفظ القرآن، وهو في العاشرة من عمره، علق أحد العلماء على مقدرة ابن سينا في اللغة العربية في جلسة حضرها الأمير، وأبدى فيها ابن سينا رأيه في كلمة عربية، فكان رأي العالم أنه بالرغم من حكمة ابن سينا الواسعة في مجالات كثيرة إلا أنه ليس متمكنا من اللغة العربية لدرجة تمكنه من أن يعطي ما رآه في خصائصها، وبعد إبداء الملاحظة كرس ابن سينا ثلاث سنوات من عمره لدراسة اللغة العربية بنحوها وآدابها، وبعث لإحضار الكتب من مناطق نائية جداً، ثم قام بعد ذلك بكتابة ثلاث قصائد باللغة العربية مستعملا كلمات قديمة ونادرة، وكذلك ثلاث مقالات كل منها بأسلوب تقليدي مختلف، ثم جمعها في كتاب واحد، ولكي يبدو الكتاب قديما فقد غمره في التراب ثم قدمه للأمير مدعياً أنه عثر عليه في رحلة صيد وأنه لا يفهمه تماما، ثم قدمه الأمير بناء على طلب ابن سينا إلى نفس العالم الذي أهانه من قبل حتى يقوم بشرحه، وشعر العالم بحرج شديد بعد أن أدرك أن هذه التحفة النادرة كانت نتاج ملاحظته منذ ثلاث سنوات. اشتهر ابن سينا بمظهره البالغ الحسن، وسيرة حياته تبدو كأنها من أدب المغامرات، وعمل عند كل أمير، أو ملك، أو حاكم كموسيقى، ووزير، ورفيق كذلك).  [6]

اكتشف ابن سينا الصلة الوثيقة بين الحالة النفسية للمريض والمرض العضوي الذي يعاني منه، والقصة التالية توضح لنا مدى براعة عالمنا الجليل في هذا المجال: (استدعي ابن سينا للكشف على مريض، وبعد فحصه فحصا دقيقا تأكد أنه لا يعاني من مرض عضوي ولكن من حالة نفسية، وعندئذ استدعى رجلا يعرف أحياء المدينة وشوارعها خير المعرفة، وأخذ في سرد أسماء الأطباء اسماً اسماً بينما يضع ابن سينا إصبعه على رسغ المريض ويحس نبضه ويلحظ التغيرات على وجهه، حيث لاحظ عليه التأثير عند ذكر اسم حي معين، وعندئذ بدأ في ذكر شوارع ذلك الحي حتى اكتشف الشارع الذي تأثر بذكره هذا المريض، وهكذا حتى وصل إلى ذكر البيوت وساكنيها فرداً فرداً، حتى ذكر اسم فتاة معينة، فعرف إن الشاب يهواها، وكان العلاج هو الزواج وتم بعده الشفاء).  [7]

تقدير واحترام العلماء والباحثين للشيخ الرئيس:

حظي ابن سينا بتقدير واحترام العلماء والباحثين في مختلف أنحاء العالم وعلى مر العصور وقال عنه جورج سارتون: (إن ابن سينا ظاهرة فكرية عظيمة ربما لا نجد من يساويه في ذكائه أو نشاطه الإنتاجي.. إن فكر ابن سينا يمثل المثل الأعلى للفلسفة في القرون الوسطى). ويقول دي بور: (كان تأثير ابن سينا في الفلسفة المسيحية في العصور الوسطى عظيم الشأن، واعتبر في المقام كأرسطو).  ويصفه هولميارد بقوله: (إن علماء أوربا يصفون ” أبا علي” بأنه أرسطو طاليس العرب، ولا ريب في أنه عالم فاق غيره في علم الطب وعلم طبقات الأرض، وكان من عادته إذا استعصت عليه مسألة علمية أن يذهب إلى المسجد لأداء الصلاة، ثم يعود إلى المسألة بعد الصلاة بادئا من جديد؛ فيوفق في حلها).  ولا تزال صورة ابن سينا تزين قاعات كلية الطب بجامعة باريس حتى الآن؛ تقديراً لعلمه واعترافا بفضله وسبْقه. [8]

قال عنه جورج سارتون: أنّه أشهر عالم في الإسلام.

أثارت شهرة ابن سينا ومكانته العلمية الرفيعة حسد بعض معاصريه وغيرتهم منه، ووجدوا في نزعته العقلية وآرائه الجديدة في الطب والعلوم والفلسفة مدخلاً للطعن بعلمه واتهامه بالإلحاد والزندقة. لكنه كان يرد عليهم دائماً بقوله: (إيماني بالله لا يتزعزع؛ فلو كنت كافراً فليس ثمة مسلم حقيقي واحد على ظهر الأرض). يعد ابن سينا فيلسوفاً، طبيباً وعالماً، ومن أهم رجال الفكر في الإسلام ومن أشهر فلاسفة الشرق وأطبائه. سماه الغربيون بأمير الأطباء.

الأستاذ الدكتور مصطفى العبد الله الكفري

كلية الاقتصاد – جامعة دمشق

[1]  – يقول سمير حلبي: ولد ابن سينا في “خرميش” إحدى قرى “بخارى” في (شهر صفر 370 هـ= أغسطس/ آب 980 م).

[2]  – أنظر، http://www.alnoor.info/scientists/29.asp.

[3]  – سمير حلبي، الشيخ الرئيس ابن سينا.. المعلم الثالث.

[4]  – أنظر،

http://activities.almawakeb.sch.ae:82/hisclub2/olama/Ibin%20Seena.htm.

[5]  – سمير حلبي، الشيخ الرئيس ابن سينا.. المعلم الثالث.

[6]  – أنظر،

http://activities.almawakeb.sch.ae:82/hisclub2/olama/Ibin%20Seena.htm.

[7]  – المصدر السابق.

[8]  – سمير حلبي، الشيخ الرئيس ابن سينا.. المعلم الثالث.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

2 × 2 =

آخر الأخبار